ضرورة التخصّص الشّرعي
صفحة 1 من اصل 1
ضرورة التخصّص الشّرعي
الدّكتور محمد بوزغيبة
أستاذ الفقه الإسلامي وعلومه ورئيس وحدة بحث فقهاء تونس بجامعة الزّيتونة
• تقديـم:
تتحفنا جريدة الصّباح الغرّاء بين الفينة والأخرى بتعليق صحفيّ بنّاء أو بنشر ورقة نقديّة لبعض الكفاءات العلميّة في مسائل تتعلّق خصوصا بالخطاب الدّيني في تونس وبالملفّات التي تتناول الفكر الإسلامي والتي يتكلّم فيها غالبا من لا يمتّ للاختصاص الشّرعي بصلة.
• كلمة شكر وامتنان:
لقد وضعت جريدة الصّباح الإصبع على الدّاء في مناسبات عدّة وبطرق شتّى، فالصّحفيّة المتميّزة آمال موسى كثيرا ما تعلّق بأسلوب أكاديميّ وموضوعي على بعض الملفّات ذات الطّابع الدّيني، والصّحفيّان محمّد بن رجب ومحسن الزّغلامي يحذوان حذوها ويقدّمان تعليقات صحفيّة جريئة تارة بالتّلميح وأخرى بالتّوضيح على بعض التّجاوزات ممّن ادّعى التّخصّص الشّرعي وهو أبعد ما يكون من ذلك.
كما نشرت جريدة الصّباح مشكورة أطروحات بعض النقّاد الوطنيّين الذين يرفضون المزايدات باسم الدّين في دولة تفخر بانتمائها العربي الإسلامي، وجعلت شعارها الرّسمي: الوسطيّة والاعتدال والمرونة، وهذه المفاتيح الثّلاثة هي روح الشّريعة الإسلاميّة وجوهرها.
ومن يتأمّل في تعاليق أولئك النّقّاد سيلحظ امتعاضهم من المتطفّلين والمتفيقهين وتبرّمهم ممن ليس من أهل الاختصاص، ومناداتهم في نفس الوقت بضرورة تشريك أصحاب الكفاءة في العلوم الشّرعيّة ممـّن له قدم راسخة في هذا العلم.
فمقصد جريدة الصباح – دون إطراء أو رمي للورود- هو الارتقاء بالذهنيّة التّونسيّة في كلّ المجالات المعرفيّة، ومن بين تلكم المجالات، مبحث الشأن الدّيني بتونس، وقضيّة الخطاب الدّيني والتّعليم الزّيتوني، ومنابر الحوار في الفكر الإسلامي.
فالمباحث التي نشرتها جريدة الصّباح في هذا المجال مؤخّرا تتساءل بلباقة الصّحفي المحنّك عن سبب انتصاب كلّ من هبّ ودبّ للحديث في العلوم الشّرعيّة، والحال أنّ تونس لها أعرق جامعة إسلاميّة عرفها التّاريخ وهي جامعة الزّيتونة المحروسة. وعلى علماؤها ورجالاتها في التخصّص الشّرعي.
• نقـد الذّات حقّ مشروع:
أصبحنا باسم حريّة التّعبير، ,باسم الحريّة الفكريّة، وباسم حقّ الحوار وحقّ إبداء الرّأي........ وهي مبادئ تحرص سلطة الإشراف على تكريسها بين المواطنين، أصبحنا نقرأ ونسمع باسم تلك المبادئ لمن يبحث جاهدا عن النّيل من سيرة الرّسول ، والحال أنّه ينتمي إلى بلد جعل المولد النّبوي الشّريف عطلة رسميّة تتخلّلها أذكار محمديّة وقراءة لشمائل خير البريّة، ويمتاز يوم المولد بأكلة تونسيّة خاصّة، أيعقل أن تحتفل تونس سنويّا بمولد الرّسول الأكرم احتفالا يفوق جلّ احتفالات البلدان الإسلاميّة، ويتفنّن مفكّروها، وخصوصا من بلغ منهم مرتبة علميّة راقية في النيل من سيرة الرّسول الأعظم، أو يتساءل باستهزاء وسخرية عن سبب استنكار المسلمين ممّن سخر من شخصيّة الرّسول ورسمه في صور كاريكاتوريّة مشينة.
وأصبحنا نقرأ لمن يبحث عن حذف القدسيّة من كتاب الله العزيز، بدعوى أنّه نزل في زمان غير زماننا، وأنّ لا وجود لنصوص قطعيّة ثابتة.
وباسم العقلنة في زمن الحداثة والعولمة، أصبح البعض ينادي بتجاوز الثّابت والجوهر، وادّعى أنّ العقل هو الأساس في شؤون حياة المسلمين، حتّى العبادة يجب أن نعيد النّظر فيها لأنّها ستشغلنا عن متعة الحياة الدنيا وتعيقنا عن مسايرة السّرعة الزّمنيّة وهكذا يقع حذف أركان الإسلام المعلومة من الدّين بالضّرورة الركن تلو الآخر.
وهناك من نصب نفسه عبقريّا فذّا، فلا يتردّد في نقد الرّموز الدّينيّة كعمر بن الخطّاب وعائشة أمّ المؤمنين وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم؛ بل هناك من جاهر بنقده اللاّذع لكلّ الفقهاء القدامى والمتأخّرين واعتبر جميعهم يكره المرأة، وهذا التعميم لا يحتاج إلى تعليق، ولمّا يحاورك في مسألة دينيّة ينتقي من فكر البعض من أولئك الفقهاء ويستشهد به ليحاججك ويُقنعك بأنّ كلامك مستمدّ من رأي الفقيه الفلاني...
وباسم الحريّة الفكريّة أصبحنا نقرأ لأفكار تورّع كبار المستشرقين المتطرّفين عن الخوض فيها وتدوينها في كتبهم، وتهيّبوا الخوض فيها، وخاض فيها من ينتسب إلى الأمّة العربيّة الإسلاميّة.
وأخيرا وليس آخرا، وباسم نقد الفتاوى الصّادرة عن بعض الهوائيّات أو المبثوثة عبر بعض المواضع الالكترونيّة، لا يتردّد بعضهم في تعميم الحكم ويطالب بنسف خطة المفتي وبحذف شروط الاجتهاد، وينادي بإمكانيّة اجتهاد العامّي، أمّا من كان محسوبا على التخصّص الشرعي فإنّه لمّا يتكلّم في المنابر الفكريّة فإنّه يتحدّث عن الإبل الضّالة وعن رؤوس البقر والغنم وأذنابها، أو يتحدّث عن حروب الردّة وعن العبوديّة وعن الحدود، ولا تتجاوز ثقافته الشّرعيّة مسائل رضاع الكبير وصوت المرأة أهو عورة أم لا؟ وهل نقول باسم الله الرحمن الرّحيم عند الصّلاة أم لا؟ وهل يقوم المصلّي بالقبض أو السّدل أثناء الصّلاة ؟ ولما يسأل عن سفر العزْباء للحجّ بمفردها يبيح ذلك بكلّ بساطة دون تقديم ضوابط شرعيّة وأخلاقيّة...
فئة بعيدة عن التّخصّص في أرقى معانيه تحشر أنفها في العلوم الشرعيّة الشّريفة، وتبحث عن دراية ومخطّط أو عن جهل وبلاهة عن نسف التّراث العربي الإسلامي بدعوى إعادة قراءته بطريقة علميّة ! أين هو الاعتزاز بالهويّة العربيّة الإسلاميّة؛ هل بالتهكّم على الثّوابت سننزع ذهنيّة التكفير والتطرّف؟ هل بإزاحة أهل الاختصاص سيتقدّم الخطاب الدّيني ؟ وما هو المقصود بالطّريقة العلميّة وبالقراءة الموضوعيّة للتّراث ؟ ؟ ؟
- من هو الأولى بتقديم المعلومة الشّرعيّة المرنة بالحكمة والموعظة الحسنة، الذي له زاد شرعيّ متين أو المُتفيقِه في الدّين والجاهل بأحكامه ؟
- من يستطيع أن يغرس مبادئ الوسطيّة والاعتدال والمجادلة بالتي هي أحسن صاحب المعرفة الشّرعيّة الواسعة أو صاحب الأميّة الدّينيّة ؟
- من يستطيع التأثير على الشّباب وإقناعهم بأنّ مقاصد الشّريعة مرنة وأنّ الغلوّ والتطرّف مرفوض ومنبوذ، العالم المتديّن أو المانع الذي لا يطبّق أحكام الدّين؟
• التخصّص ضروري:
يقول الشّاعر:
ولا بـدّ مـن شيـخ يريـك شخـوصها
وإلاّ فنـصف العلـم عنـك ضائـع
الشّخوص هي الجزئيّات التّخصصيّة في كلّ علم من العلوم؛ فلماذا لا يتكلّم في علم المعلوماتيّة إلاّ الخبير والمهندس المتخصّص في هذا الفنّ ؟ لماذا لا يتصدّى لعلم الجراحة إلاّ الطّبيب المختصّ ؟ حتّى الرّياضة والرّسم والنّحت، فإنّه لا يفلح في تقديم الإضافة فيها إلاّ المتخصّص. لكن نجد كلّ فئات المجتمع من النّادل إلى الحارس إلى المطرب إلى الشّاعر إلى الفيلسوف... الجميع يتكلّم في الشأن الدّيني، والجميع يفتي وينقد ويعلّق ويُحرّم ويُحلّل. ولنا في رئيس الدّولة الأسوة الحسنة، اقرؤوا المحاضرات التي ألقاها في المناسبات الدّينيّة أو عند افتتاح أعمال المجالس الولائيّة الممتازة، ستلاحظون منهجيّة ثابتة يذكر فيها رئيس الدّولة علماء الإصلاح والاجتهاد والفتوى في كلّ ولاية تونسيّة يتولّى زيارتها. المقصد من ذلك احترام أهل الاختصاص في اختصاصاتهم، وعاش من عرف قدره.
لا وجود إذا لفقه الشّوارع وفقه العوام وفقه المتفيقهين، إنّما نجد فقه الضّرورة، فقه الممكن، فقه الأولويّات، لكن لا يلج هذه المباحث إلاّ من كان قدمه راسخا في العلوم الشّرعيّة، ولا يتمّ ذلك إلاّ بشروط.
• شروط المجتهد:
كيف نثبت أنّ الاجتهاد ممكن اليوم؟
لا ينكر أحد أنّ الأحكام الاجتهاديّة في الشّريعة الإسلاميّة عرضة للتطوّر والتّغيّر، إمّا بسبب تغيّر مناطاتها وأسسها القائمة عليها، أو بسبب تغيّر اجتهادات المجتهدين أنفسهم. فعلى المجتهد أن يُقبل على قراءة التراث التشريعي قراءة معتبر لا معتذر، وعليه أن يكون ملمّا بالنّصوص الشرعيّة التي أطلقَ عليها العلماء -آيات الأحكام- يقول الخطيب البغدادي في كتابه: "الفقيه والمتفقّه": " لا يحلّ لأحد أن يُفتي في دين الله إلاّ رجلا عارفا بكتاب الله وبناسخه ومنسوخه وبمحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيّه ومدنيّة، وما أريد به وفيما أنزل، ثمّ يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله بالنّاسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللّغة بصيرا بالشعر وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف وقلّة الكلام، ويكون بعد ذلك مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا. أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلّم ولا يفتي(1).
هذه الشّروط التي وضعها البغدادي وهو يحلّل رسالة الإمام الشّافعي تعتبر نبراسا للمتخصّص ليعرف حدوده، وتلجم فاه من يريد أن يحشر نفسه في العلوم الشرعيّة التخصّصيّة.
وعلى المجتهد بعد ذلك أن يكون ملمّا بالآليات الأصوليّة التي يمكن توظيفها في العصر الحالي ليتمكّن من مواكبة العصر والجواب عن تحدّياته وإيجاد الحلول لمستجداته، فمن تلك الآليات المعمول بها قديما وحديثا؛ القياس والمصالح المرسلة ومراعاة العرف والعادة والاستحسان وتسدّ الذّرائع، ثمّ تكون له معرفة مقاصديّة، والغاية من هذه المعرفة هي التوصّل إلى مرمى الخطاب الإلهيّ، وإنّ الانحرافات المعاصرة سببها الجهل بعلم المقاصد، يقول الإمام الشّاطبي في الموافقات: "زلّة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشّرع في ذلك المعنى الذّي اجتهد فيه" (2).
وإنّ مقاصد الشّريعة هي التي تؤول في النّهاية إلى جلب المصالح ودفع المفاسد وحفظ الكلّيات (3) وعليها بنى الأقدمون كيانهم المجتمعي، وما أحوجنا في هذه الأيّام إلى أصولها (4).
ومن شروط الاجتهاد أيضا الاعتناء بالقواعد الفقهيّة للانتقال من الجزئيّات إلى الكليّات، فالقواعد صالحة للاجتهاد الذي يواكب العصر ويجيب عن أسئلته. ومن الشّروط كذلك الاعتناء باللّغة العربيّة فهي أداة هامّة مؤهّلة للنّظر الاجتهادي بوصفها تحتضن نصوص الوحي كتابا وسنّة، أسلوبا ومبنى ومعنى، قال الإمام الشّاطبي: "الشريعة عربيّة، وإذا كانت عربيّة فلا يفهمها حقّ الفهم إلاّ من فهم اللّغة العربيّة حقّ الفهم" (5).
وإنّ الاجتهاد في تفهّم المعاني المُرادة والمقاصد العالية من النصّ الشرعي، يجب أن يسبقه التأكّد من صحّة نسبة النصّ إلى مصدره، وليس ثمّة آلة تحقّق للمرء ذلك سواى آلة علم مصطلح الحديث، فيجب الإلمام بهذا العلم أيضا للتصدّي للاجتهاد في هذا العصر (6).
كلّ ذلك مع الإلمام بمبادئ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة المعاصرة، ومزيد التعرّف على أعراف وعوائد النّاس والجماعات أي استيعاب فقه الواقع (7).
هل العاميّ أو الأميّ ملمّ بهذه العلوم وهل أخذ بناصيتها لنقول بإمكانيّة اجتهاد العاميّ. كلام سطحيّ بجانب الصّواب.
• الفتوى عبر الهوائيّات وفي المواقع الالكترونيّة:
لا ينكر أيّ عاقل أنّ بعض الهوائيّات تبثّ بعض الفتاوى الهزيلة والبالية بل أكثر من ذلك، هناك فتاوى تصيب المستمع بالغثيان. هذه المسالة لا يختلف فيها إثنان ولا يتناطح حولها عنزان، لكن هل نعمّم الحكم وننسف كلّ ما تقدّمه الهوائيّات العربيّة بالاعتماد على هزال البعض منها، الثّابت أنّ التّعميم غير موضوعي، وخصوصا عندما يصدر من علمانيّ أو متعالي عن الشّريعة وأحكامها، لأنّ المجتمع العربي المسلم يضمّ علماء كبار منهم من كان عضوا في المجامع الفقهيّة العالميّة، ومنهم من تشهد آثاره برسوخ قدمه، فلا نضمّ هؤلاء إلى أولائك، بل ننصح بالانتقاء والتحرّي والتثبت وسؤال أهل الذّكر، والحال أنّ بلادنا والحمد لله حافظت على هيبة مؤسّسة مفتي الجمهوريّة، فلا يتصدّى لهذه الخطّة إلاّ كبار شيوخ الزيتونة، هذا من النّاحية العلميّة، وأيضا يتقدّم مفتي الجمهوريّة سائر أعضاء الحكومة في المناسبات الرّسميّة (.
فكيف ندّعي إلغاء خطّة المفتي، وفسح المجال للعامّي بأن يفتي بناء على مناقشة بعض من ينسب للتخصّص الشّرعي فيحدّثنا في زمن الرّقمنة عن الإبل الضّالة وعن رضاع الكبير...
إنّ المسلم يُكْبر كلام المفتي رغم علمه بأنّ الفتوى ليست إلزاميّة، من منّا لا يعوّل على كلام المفتي عند إهلال شهر رمضان، أو عند تحديد زكاة الفطر ونصاب زكاة المال وغيرها كثير. لماذا ننوّه بقيمة المفتي لما يقدّم فتوى تخدم الصّالح العام. ألم يتسبّب مفتي الدّيار التّونسيّة الأوّل الشيخ محمد العزيز جعيّط بردّ الله ثراه مثلا في الانتعاش الاقتصادي غداة استقلال البلاد، لمّا قدّمت له الحكومة فتوى حول القرض الوطني عندما لاحظت عزوف المتساكنين عن المساهمة في هذا القرض لوجود ريبة الفوائض الرّبويّة المحرّمة، فتدخّل الشّيخ جعيّط بصفة المفتي، وبيّن لهم أنّ هذا القرض جائز وليس محرّما وسيعود بالنّفع على البلاد عموما لتحريك عجلة الاقتصاد، وفتواه طمأنت المواطنين وهرعوا للحصول على رقاع القرض خدمة للصّالح العام (9)، وإنّ تدخّل المفتي لاقناع النّاس يحتاج إلى بحث خاصّ، ولكن أسوق مثالا آخر تقدّم به سماحة مفتي الجمهوريّة الحالي الشيخ كمال الدّين ابن الشّيخ محمد العزيز جعيّط الذي بيّن محاسن التبرّع بالأعضاء وطمْأن النّاس على ممارسة هذا العمل النّبيل(10)، وأيضا تلك الفتوى التي ذاع صيتها شرقا وغربا والتي حبّرتها يد الشّيخ العلاّمة محمد الطّاهر ابن عاشور وموضوعها جواز الإحرام من جدّة للقاصدين بيت الله الحرام عن طريق الطّائرة. فالمسلم كان يجد جرحا عندما يخرج من بيته أو من مطار بلاده لأنّ ميقات الإحرام يأتي قبل مدينة جدّة للقاصدين بيت الله الحرام من المغرب العربي، ولباس الإحرام داخل الطّائرة مستحيل لأسباب كثيرة يطول شرحها، فجاءت فتوى الإمام ابن عاشور وتقبّلها علماء المغرب العربي القبول الحسن وسار على مقتضاها الحجيج(11).
فالمفتي له دور رئيسي في مجتمعه، فهو عمدتهم في الشّؤون الدّينيّة (12)، ولقد أفرده علماء الأصول بمباحث خاصّة، فبيّنوا شروط الانتصاب للفتوى، ودور المفتي وقيمة الفتوى، فكيف ينادي البعض بحذف هذه الخطّة وفسح المجال للمتنطّعين ليصدروا فتاوى هزيلة تحرّم الحلال وتحلل الحرام.
يقول الشّيخ علي حسب الله في مبحث الإفتاء: " لا تتهيّأ مطالب العيش ولا تنتظم أمور الحياة إذا طولب النّاس جميعا ببلوغ مرتبة الاجتهاد، بحيث يكون ذلك فرض عين على كلّ واحد منهم. إذ بذلك ينقطع الحرث وتتعطّل الحرف والصّناعات ويقف دولاب العمل، فلا بدّ من انقسام النّاس قسمين: قادرين على استنباط الأحكام، وعاجزين وعوام.
وقد جرت العادة أن يلجأ العامّة في تعرّف أحكام دينهم إلى العلماء ويستفتوا المجتهدين ويقلّدوهم، والواجب على هؤلاء أن يفتوهم ولا يكلّفوهم ما لا طاقة لهم به من استنباط الأحكام، كما كان علماء الصّحابة يصنعون مع عوّامهم. قال تعالى: "فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون" [الأنبياء: 7] وقال : "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
ثمّ تحدّث علي حسب الله عن العامّي وبيّن مهمّته وحدوده فلم يبح له إيلاج بحر الإفتاء بل قال: "ويجب على العامّي أن يتوجّه بالسّؤال إلى من يثق بعلمه وعدالته، فإذا جهل حاله كفاه أن يراه مشهورا بين الناس بذلك، ومع هذا لا تبرأ ذمّته بالعمل بفتواه إلاّ إذا كان مطمئنّ القلب إليها، فإذا كان يعلم أنّ الأمر في الواقع على خلاف الفتوى، لم يبرأ من الإثم وإن كان المفتي أعلم العلماء......" ثمّ بيّن الشّيخ علي حسب الله صفات المفتي، وحصرها في الخصال التّالية: النيّة والعلم والحِلْم والوقار والسّكينة والكفاية ومعرفة النّاس وأحوالهم. ثمّ قدّم رحمه الله ما يجب على المفتي وقال: يجب على المفتي إذا رفعت إليه مسألة أن يتحلّى بأمور منها:
- ألاّ يقدم على الإفتاء وهو في غضب شديد أو خوف مزعج، أو همّ مقلق أو جوع مفرط أو نعاس غالب أو شغل قلب مستحكم، أو مدافعة للأخبثين لأنّ كل ذلك يخرجه عن حال الاعتدال وكمال التثبّت.
- أن يشعر قلبه الحاجة إلى ربّه ويستمدّ منه المعونة على ما هو بسبيله ليوفّقه إلى الصّواب، ويفتح له طريق الرّشاد، ثمّ يتّجه إلى نصوص الكتاب والسنّة وآثار الصّحابة، ويطّلع على ما أُثر من أقوال العلماء، ويبذل جهده في تعرّف الحكم من أصوله، مستعينا بآثار من سبقه فإن ظفر به، وإلاّ بادر إلى التّوبة والاستغفار، وألحّ في استمداد المعونة من معلم الخير وملهم الصّواب، فإنّ العلم نور يقذفه الله في قلب عبده، والهوى والمعاصي رياح عاصفة، تطفئ ذلك النّور وتنشر الظلمة في أرجاء الصدور.
- أن يتحرّى الحكم بما يرضي ربّه ويجعل نصب عينيه قوله سبحانه: "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ما أنزل الله إليك". [46 المائدة].
فلا يصحّ له أن يعتمد في فتواه على مجرّد وجود الحكم بين أقوال الفقهاء، بل يجب عليه أن يتحرّى ما هو أرجح منها تبعا لقوّة الدّليل، وإلاّ كان متّبعا هواه، وقائلا في دين الله بالتشهّي، ولا يصحّ له أن يفتي بالحيل المحرّمة أو المكروهة، أمّا الحيل التي تخلّص المستفتي من الحرج من غير مفسدة، فإنّها مستحبّة...
ولا يصحّ للمفتي أن يحابي في فتواه، فيفتي بالرّخص من أراد نفعه من أقار به وأصدقائه، أو من طمع في برّه وجدواه، من ذوي الجاه دون غيرهم من عامّة النّاس...." (13)
فالمفتي له شروط، وعلى غير المتخصّص أن يحترم نفسه ليحترمه غيره. فالعامّي لا يجتهد، وعلى العلمانيّ أن يترك الاجتهاد لأهله، وعلى الوصوليّ أن يتوب إلى رشده، ولا يطلق العنان إلى قلمه أو لسانه فيشتم جميع الفقهاء، دون استثناء ويتّخذ قولدماير أنموذجا لحكم المرأة.
وإنّي أنوّه بما كتبه الأستاذ عبد القادر المعالج في عدد فارط لمّا تسائل عن صمت الأساتذة المتخصّصين في العلوم الشّرعيّة الرّهيب في ندوة حول الحوار بين الأديان، في حين دافع اليهودي عن ديانته ودافع المسيحي عن نصرانيّته. أقول له: هل حضر أهل الاختصاص في العلوم الشّرعيّة أو غيرهم.
الخاتمـة:
لا تقضي البلدان الإسلاميّة على الأميّة الدّينيّة ومخاطرها ولا تزيح الفكر المتطرّف وتستأصله من جذوره إلاّ بعد تشريك ذوي الخبرة والتخصّص من رجالات الشّريعة، فمثلما تقدّمت بلادنا مثلا في الميدان الطبّي بعد أن فسحت المجال للأطبّاء بأداء واجبهم المهني بحريّة، لا تتقدّم في الخطاب الدّيني إلاّ بعد أن تفسح المجال للشّيوخ والعلماء المعتدلين الوطنيّين من تقديم النّصح والإرشاد والمعلومة الشّرعيّة الصّحيحة أخذا بالأيسر والأرفق والأوفق والأحوط مراعاة للعصر وتحدّياته. والله الهادي إلى السّواء السّبيل.
الهوامش
1)- الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقّه: ط الرياض مطابع القسيم: 1389هـ 2/157.
2)- الشّاطبي: أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشّريعة: تح محمد عبد الله دراز: دار المعرفة 1994: 4/ 170.
3)- راجع كتاب مقاصد الشّريعة الإسلاميّة للشّيخ الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور: طبع دار سحنون 2006.
4)- بوزغيبة محمّد: وسائل الاجتهاد المقترحة في هذا العصر: مجلّة المشكاة ع 2: 2004، جامعة الزيتونة.
5)- الشّاطبي: م.ن: 4/ 115.
6)- الصنعاني: محمّد بن إسماعيل: إرشاد النقّاد إلى تيسير الاعتماد: ط بيروت 1985: 86.
7)- بوزغيبة: م.ن: 13 وما بعدها.
- أسماء بن دعيّة: كتاب مؤسّسة مفتي الجمهوريّة في تونس، دار سراس للنشر: 2001.
9)- راجع فتاوى شيخ الإسلام محمد العزيز جعيّط: تحقيق محمد بوزغيبة: طبع مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان 1994.
10)- نشرت فتوى في عدّة مواقع كمجلّة الهداية والصّحافة اليوميّة.
11)- راجع كتاب فتاوى الشّيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور جمع وتحقيق محمد بوزغيبة: طبع دبي الإمارات 2004.
12)- محاضرتي: منهج الوسطيّة والاعتدال في الفتاوى التّونسيّة المعاصرة: ألقيت ضمن فعاليات الندوة التي أقامها مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان بالاشتراك مع مركز الدّراسات الإسلاميّة بجامعة أم القرى بمكّة: جامعة الزّيتونة: ماي 2007.
13)- علي حسب الله: أصول التّشريع الإسلامي: دار المعارف مصر: 1971: 95 وما بعدها.
أستاذ الفقه الإسلامي وعلومه ورئيس وحدة بحث فقهاء تونس بجامعة الزّيتونة
• تقديـم:
تتحفنا جريدة الصّباح الغرّاء بين الفينة والأخرى بتعليق صحفيّ بنّاء أو بنشر ورقة نقديّة لبعض الكفاءات العلميّة في مسائل تتعلّق خصوصا بالخطاب الدّيني في تونس وبالملفّات التي تتناول الفكر الإسلامي والتي يتكلّم فيها غالبا من لا يمتّ للاختصاص الشّرعي بصلة.
• كلمة شكر وامتنان:
لقد وضعت جريدة الصّباح الإصبع على الدّاء في مناسبات عدّة وبطرق شتّى، فالصّحفيّة المتميّزة آمال موسى كثيرا ما تعلّق بأسلوب أكاديميّ وموضوعي على بعض الملفّات ذات الطّابع الدّيني، والصّحفيّان محمّد بن رجب ومحسن الزّغلامي يحذوان حذوها ويقدّمان تعليقات صحفيّة جريئة تارة بالتّلميح وأخرى بالتّوضيح على بعض التّجاوزات ممّن ادّعى التّخصّص الشّرعي وهو أبعد ما يكون من ذلك.
كما نشرت جريدة الصّباح مشكورة أطروحات بعض النقّاد الوطنيّين الذين يرفضون المزايدات باسم الدّين في دولة تفخر بانتمائها العربي الإسلامي، وجعلت شعارها الرّسمي: الوسطيّة والاعتدال والمرونة، وهذه المفاتيح الثّلاثة هي روح الشّريعة الإسلاميّة وجوهرها.
ومن يتأمّل في تعاليق أولئك النّقّاد سيلحظ امتعاضهم من المتطفّلين والمتفيقهين وتبرّمهم ممن ليس من أهل الاختصاص، ومناداتهم في نفس الوقت بضرورة تشريك أصحاب الكفاءة في العلوم الشّرعيّة ممـّن له قدم راسخة في هذا العلم.
فمقصد جريدة الصباح – دون إطراء أو رمي للورود- هو الارتقاء بالذهنيّة التّونسيّة في كلّ المجالات المعرفيّة، ومن بين تلكم المجالات، مبحث الشأن الدّيني بتونس، وقضيّة الخطاب الدّيني والتّعليم الزّيتوني، ومنابر الحوار في الفكر الإسلامي.
فالمباحث التي نشرتها جريدة الصّباح في هذا المجال مؤخّرا تتساءل بلباقة الصّحفي المحنّك عن سبب انتصاب كلّ من هبّ ودبّ للحديث في العلوم الشّرعيّة، والحال أنّ تونس لها أعرق جامعة إسلاميّة عرفها التّاريخ وهي جامعة الزّيتونة المحروسة. وعلى علماؤها ورجالاتها في التخصّص الشّرعي.
• نقـد الذّات حقّ مشروع:
أصبحنا باسم حريّة التّعبير، ,باسم الحريّة الفكريّة، وباسم حقّ الحوار وحقّ إبداء الرّأي........ وهي مبادئ تحرص سلطة الإشراف على تكريسها بين المواطنين، أصبحنا نقرأ ونسمع باسم تلك المبادئ لمن يبحث جاهدا عن النّيل من سيرة الرّسول ، والحال أنّه ينتمي إلى بلد جعل المولد النّبوي الشّريف عطلة رسميّة تتخلّلها أذكار محمديّة وقراءة لشمائل خير البريّة، ويمتاز يوم المولد بأكلة تونسيّة خاصّة، أيعقل أن تحتفل تونس سنويّا بمولد الرّسول الأكرم احتفالا يفوق جلّ احتفالات البلدان الإسلاميّة، ويتفنّن مفكّروها، وخصوصا من بلغ منهم مرتبة علميّة راقية في النيل من سيرة الرّسول الأعظم، أو يتساءل باستهزاء وسخرية عن سبب استنكار المسلمين ممّن سخر من شخصيّة الرّسول ورسمه في صور كاريكاتوريّة مشينة.
وأصبحنا نقرأ لمن يبحث عن حذف القدسيّة من كتاب الله العزيز، بدعوى أنّه نزل في زمان غير زماننا، وأنّ لا وجود لنصوص قطعيّة ثابتة.
وباسم العقلنة في زمن الحداثة والعولمة، أصبح البعض ينادي بتجاوز الثّابت والجوهر، وادّعى أنّ العقل هو الأساس في شؤون حياة المسلمين، حتّى العبادة يجب أن نعيد النّظر فيها لأنّها ستشغلنا عن متعة الحياة الدنيا وتعيقنا عن مسايرة السّرعة الزّمنيّة وهكذا يقع حذف أركان الإسلام المعلومة من الدّين بالضّرورة الركن تلو الآخر.
وهناك من نصب نفسه عبقريّا فذّا، فلا يتردّد في نقد الرّموز الدّينيّة كعمر بن الخطّاب وعائشة أمّ المؤمنين وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم؛ بل هناك من جاهر بنقده اللاّذع لكلّ الفقهاء القدامى والمتأخّرين واعتبر جميعهم يكره المرأة، وهذا التعميم لا يحتاج إلى تعليق، ولمّا يحاورك في مسألة دينيّة ينتقي من فكر البعض من أولئك الفقهاء ويستشهد به ليحاججك ويُقنعك بأنّ كلامك مستمدّ من رأي الفقيه الفلاني...
وباسم الحريّة الفكريّة أصبحنا نقرأ لأفكار تورّع كبار المستشرقين المتطرّفين عن الخوض فيها وتدوينها في كتبهم، وتهيّبوا الخوض فيها، وخاض فيها من ينتسب إلى الأمّة العربيّة الإسلاميّة.
وأخيرا وليس آخرا، وباسم نقد الفتاوى الصّادرة عن بعض الهوائيّات أو المبثوثة عبر بعض المواضع الالكترونيّة، لا يتردّد بعضهم في تعميم الحكم ويطالب بنسف خطة المفتي وبحذف شروط الاجتهاد، وينادي بإمكانيّة اجتهاد العامّي، أمّا من كان محسوبا على التخصّص الشرعي فإنّه لمّا يتكلّم في المنابر الفكريّة فإنّه يتحدّث عن الإبل الضّالة وعن رؤوس البقر والغنم وأذنابها، أو يتحدّث عن حروب الردّة وعن العبوديّة وعن الحدود، ولا تتجاوز ثقافته الشّرعيّة مسائل رضاع الكبير وصوت المرأة أهو عورة أم لا؟ وهل نقول باسم الله الرحمن الرّحيم عند الصّلاة أم لا؟ وهل يقوم المصلّي بالقبض أو السّدل أثناء الصّلاة ؟ ولما يسأل عن سفر العزْباء للحجّ بمفردها يبيح ذلك بكلّ بساطة دون تقديم ضوابط شرعيّة وأخلاقيّة...
فئة بعيدة عن التّخصّص في أرقى معانيه تحشر أنفها في العلوم الشرعيّة الشّريفة، وتبحث عن دراية ومخطّط أو عن جهل وبلاهة عن نسف التّراث العربي الإسلامي بدعوى إعادة قراءته بطريقة علميّة ! أين هو الاعتزاز بالهويّة العربيّة الإسلاميّة؛ هل بالتهكّم على الثّوابت سننزع ذهنيّة التكفير والتطرّف؟ هل بإزاحة أهل الاختصاص سيتقدّم الخطاب الدّيني ؟ وما هو المقصود بالطّريقة العلميّة وبالقراءة الموضوعيّة للتّراث ؟ ؟ ؟
- من هو الأولى بتقديم المعلومة الشّرعيّة المرنة بالحكمة والموعظة الحسنة، الذي له زاد شرعيّ متين أو المُتفيقِه في الدّين والجاهل بأحكامه ؟
- من يستطيع أن يغرس مبادئ الوسطيّة والاعتدال والمجادلة بالتي هي أحسن صاحب المعرفة الشّرعيّة الواسعة أو صاحب الأميّة الدّينيّة ؟
- من يستطيع التأثير على الشّباب وإقناعهم بأنّ مقاصد الشّريعة مرنة وأنّ الغلوّ والتطرّف مرفوض ومنبوذ، العالم المتديّن أو المانع الذي لا يطبّق أحكام الدّين؟
• التخصّص ضروري:
يقول الشّاعر:
ولا بـدّ مـن شيـخ يريـك شخـوصها
وإلاّ فنـصف العلـم عنـك ضائـع
الشّخوص هي الجزئيّات التّخصصيّة في كلّ علم من العلوم؛ فلماذا لا يتكلّم في علم المعلوماتيّة إلاّ الخبير والمهندس المتخصّص في هذا الفنّ ؟ لماذا لا يتصدّى لعلم الجراحة إلاّ الطّبيب المختصّ ؟ حتّى الرّياضة والرّسم والنّحت، فإنّه لا يفلح في تقديم الإضافة فيها إلاّ المتخصّص. لكن نجد كلّ فئات المجتمع من النّادل إلى الحارس إلى المطرب إلى الشّاعر إلى الفيلسوف... الجميع يتكلّم في الشأن الدّيني، والجميع يفتي وينقد ويعلّق ويُحرّم ويُحلّل. ولنا في رئيس الدّولة الأسوة الحسنة، اقرؤوا المحاضرات التي ألقاها في المناسبات الدّينيّة أو عند افتتاح أعمال المجالس الولائيّة الممتازة، ستلاحظون منهجيّة ثابتة يذكر فيها رئيس الدّولة علماء الإصلاح والاجتهاد والفتوى في كلّ ولاية تونسيّة يتولّى زيارتها. المقصد من ذلك احترام أهل الاختصاص في اختصاصاتهم، وعاش من عرف قدره.
لا وجود إذا لفقه الشّوارع وفقه العوام وفقه المتفيقهين، إنّما نجد فقه الضّرورة، فقه الممكن، فقه الأولويّات، لكن لا يلج هذه المباحث إلاّ من كان قدمه راسخا في العلوم الشّرعيّة، ولا يتمّ ذلك إلاّ بشروط.
• شروط المجتهد:
كيف نثبت أنّ الاجتهاد ممكن اليوم؟
لا ينكر أحد أنّ الأحكام الاجتهاديّة في الشّريعة الإسلاميّة عرضة للتطوّر والتّغيّر، إمّا بسبب تغيّر مناطاتها وأسسها القائمة عليها، أو بسبب تغيّر اجتهادات المجتهدين أنفسهم. فعلى المجتهد أن يُقبل على قراءة التراث التشريعي قراءة معتبر لا معتذر، وعليه أن يكون ملمّا بالنّصوص الشرعيّة التي أطلقَ عليها العلماء -آيات الأحكام- يقول الخطيب البغدادي في كتابه: "الفقيه والمتفقّه": " لا يحلّ لأحد أن يُفتي في دين الله إلاّ رجلا عارفا بكتاب الله وبناسخه ومنسوخه وبمحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيّه ومدنيّة، وما أريد به وفيما أنزل، ثمّ يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله بالنّاسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللّغة بصيرا بالشعر وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف وقلّة الكلام، ويكون بعد ذلك مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا. أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلّم ولا يفتي(1).
هذه الشّروط التي وضعها البغدادي وهو يحلّل رسالة الإمام الشّافعي تعتبر نبراسا للمتخصّص ليعرف حدوده، وتلجم فاه من يريد أن يحشر نفسه في العلوم الشرعيّة التخصّصيّة.
وعلى المجتهد بعد ذلك أن يكون ملمّا بالآليات الأصوليّة التي يمكن توظيفها في العصر الحالي ليتمكّن من مواكبة العصر والجواب عن تحدّياته وإيجاد الحلول لمستجداته، فمن تلك الآليات المعمول بها قديما وحديثا؛ القياس والمصالح المرسلة ومراعاة العرف والعادة والاستحسان وتسدّ الذّرائع، ثمّ تكون له معرفة مقاصديّة، والغاية من هذه المعرفة هي التوصّل إلى مرمى الخطاب الإلهيّ، وإنّ الانحرافات المعاصرة سببها الجهل بعلم المقاصد، يقول الإمام الشّاطبي في الموافقات: "زلّة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشّرع في ذلك المعنى الذّي اجتهد فيه" (2).
وإنّ مقاصد الشّريعة هي التي تؤول في النّهاية إلى جلب المصالح ودفع المفاسد وحفظ الكلّيات (3) وعليها بنى الأقدمون كيانهم المجتمعي، وما أحوجنا في هذه الأيّام إلى أصولها (4).
ومن شروط الاجتهاد أيضا الاعتناء بالقواعد الفقهيّة للانتقال من الجزئيّات إلى الكليّات، فالقواعد صالحة للاجتهاد الذي يواكب العصر ويجيب عن أسئلته. ومن الشّروط كذلك الاعتناء باللّغة العربيّة فهي أداة هامّة مؤهّلة للنّظر الاجتهادي بوصفها تحتضن نصوص الوحي كتابا وسنّة، أسلوبا ومبنى ومعنى، قال الإمام الشّاطبي: "الشريعة عربيّة، وإذا كانت عربيّة فلا يفهمها حقّ الفهم إلاّ من فهم اللّغة العربيّة حقّ الفهم" (5).
وإنّ الاجتهاد في تفهّم المعاني المُرادة والمقاصد العالية من النصّ الشرعي، يجب أن يسبقه التأكّد من صحّة نسبة النصّ إلى مصدره، وليس ثمّة آلة تحقّق للمرء ذلك سواى آلة علم مصطلح الحديث، فيجب الإلمام بهذا العلم أيضا للتصدّي للاجتهاد في هذا العصر (6).
كلّ ذلك مع الإلمام بمبادئ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة المعاصرة، ومزيد التعرّف على أعراف وعوائد النّاس والجماعات أي استيعاب فقه الواقع (7).
هل العاميّ أو الأميّ ملمّ بهذه العلوم وهل أخذ بناصيتها لنقول بإمكانيّة اجتهاد العاميّ. كلام سطحيّ بجانب الصّواب.
• الفتوى عبر الهوائيّات وفي المواقع الالكترونيّة:
لا ينكر أيّ عاقل أنّ بعض الهوائيّات تبثّ بعض الفتاوى الهزيلة والبالية بل أكثر من ذلك، هناك فتاوى تصيب المستمع بالغثيان. هذه المسالة لا يختلف فيها إثنان ولا يتناطح حولها عنزان، لكن هل نعمّم الحكم وننسف كلّ ما تقدّمه الهوائيّات العربيّة بالاعتماد على هزال البعض منها، الثّابت أنّ التّعميم غير موضوعي، وخصوصا عندما يصدر من علمانيّ أو متعالي عن الشّريعة وأحكامها، لأنّ المجتمع العربي المسلم يضمّ علماء كبار منهم من كان عضوا في المجامع الفقهيّة العالميّة، ومنهم من تشهد آثاره برسوخ قدمه، فلا نضمّ هؤلاء إلى أولائك، بل ننصح بالانتقاء والتحرّي والتثبت وسؤال أهل الذّكر، والحال أنّ بلادنا والحمد لله حافظت على هيبة مؤسّسة مفتي الجمهوريّة، فلا يتصدّى لهذه الخطّة إلاّ كبار شيوخ الزيتونة، هذا من النّاحية العلميّة، وأيضا يتقدّم مفتي الجمهوريّة سائر أعضاء الحكومة في المناسبات الرّسميّة (.
فكيف ندّعي إلغاء خطّة المفتي، وفسح المجال للعامّي بأن يفتي بناء على مناقشة بعض من ينسب للتخصّص الشّرعي فيحدّثنا في زمن الرّقمنة عن الإبل الضّالة وعن رضاع الكبير...
إنّ المسلم يُكْبر كلام المفتي رغم علمه بأنّ الفتوى ليست إلزاميّة، من منّا لا يعوّل على كلام المفتي عند إهلال شهر رمضان، أو عند تحديد زكاة الفطر ونصاب زكاة المال وغيرها كثير. لماذا ننوّه بقيمة المفتي لما يقدّم فتوى تخدم الصّالح العام. ألم يتسبّب مفتي الدّيار التّونسيّة الأوّل الشيخ محمد العزيز جعيّط بردّ الله ثراه مثلا في الانتعاش الاقتصادي غداة استقلال البلاد، لمّا قدّمت له الحكومة فتوى حول القرض الوطني عندما لاحظت عزوف المتساكنين عن المساهمة في هذا القرض لوجود ريبة الفوائض الرّبويّة المحرّمة، فتدخّل الشّيخ جعيّط بصفة المفتي، وبيّن لهم أنّ هذا القرض جائز وليس محرّما وسيعود بالنّفع على البلاد عموما لتحريك عجلة الاقتصاد، وفتواه طمأنت المواطنين وهرعوا للحصول على رقاع القرض خدمة للصّالح العام (9)، وإنّ تدخّل المفتي لاقناع النّاس يحتاج إلى بحث خاصّ، ولكن أسوق مثالا آخر تقدّم به سماحة مفتي الجمهوريّة الحالي الشيخ كمال الدّين ابن الشّيخ محمد العزيز جعيّط الذي بيّن محاسن التبرّع بالأعضاء وطمْأن النّاس على ممارسة هذا العمل النّبيل(10)، وأيضا تلك الفتوى التي ذاع صيتها شرقا وغربا والتي حبّرتها يد الشّيخ العلاّمة محمد الطّاهر ابن عاشور وموضوعها جواز الإحرام من جدّة للقاصدين بيت الله الحرام عن طريق الطّائرة. فالمسلم كان يجد جرحا عندما يخرج من بيته أو من مطار بلاده لأنّ ميقات الإحرام يأتي قبل مدينة جدّة للقاصدين بيت الله الحرام من المغرب العربي، ولباس الإحرام داخل الطّائرة مستحيل لأسباب كثيرة يطول شرحها، فجاءت فتوى الإمام ابن عاشور وتقبّلها علماء المغرب العربي القبول الحسن وسار على مقتضاها الحجيج(11).
فالمفتي له دور رئيسي في مجتمعه، فهو عمدتهم في الشّؤون الدّينيّة (12)، ولقد أفرده علماء الأصول بمباحث خاصّة، فبيّنوا شروط الانتصاب للفتوى، ودور المفتي وقيمة الفتوى، فكيف ينادي البعض بحذف هذه الخطّة وفسح المجال للمتنطّعين ليصدروا فتاوى هزيلة تحرّم الحلال وتحلل الحرام.
يقول الشّيخ علي حسب الله في مبحث الإفتاء: " لا تتهيّأ مطالب العيش ولا تنتظم أمور الحياة إذا طولب النّاس جميعا ببلوغ مرتبة الاجتهاد، بحيث يكون ذلك فرض عين على كلّ واحد منهم. إذ بذلك ينقطع الحرث وتتعطّل الحرف والصّناعات ويقف دولاب العمل، فلا بدّ من انقسام النّاس قسمين: قادرين على استنباط الأحكام، وعاجزين وعوام.
وقد جرت العادة أن يلجأ العامّة في تعرّف أحكام دينهم إلى العلماء ويستفتوا المجتهدين ويقلّدوهم، والواجب على هؤلاء أن يفتوهم ولا يكلّفوهم ما لا طاقة لهم به من استنباط الأحكام، كما كان علماء الصّحابة يصنعون مع عوّامهم. قال تعالى: "فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون" [الأنبياء: 7] وقال : "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
ثمّ تحدّث علي حسب الله عن العامّي وبيّن مهمّته وحدوده فلم يبح له إيلاج بحر الإفتاء بل قال: "ويجب على العامّي أن يتوجّه بالسّؤال إلى من يثق بعلمه وعدالته، فإذا جهل حاله كفاه أن يراه مشهورا بين الناس بذلك، ومع هذا لا تبرأ ذمّته بالعمل بفتواه إلاّ إذا كان مطمئنّ القلب إليها، فإذا كان يعلم أنّ الأمر في الواقع على خلاف الفتوى، لم يبرأ من الإثم وإن كان المفتي أعلم العلماء......" ثمّ بيّن الشّيخ علي حسب الله صفات المفتي، وحصرها في الخصال التّالية: النيّة والعلم والحِلْم والوقار والسّكينة والكفاية ومعرفة النّاس وأحوالهم. ثمّ قدّم رحمه الله ما يجب على المفتي وقال: يجب على المفتي إذا رفعت إليه مسألة أن يتحلّى بأمور منها:
- ألاّ يقدم على الإفتاء وهو في غضب شديد أو خوف مزعج، أو همّ مقلق أو جوع مفرط أو نعاس غالب أو شغل قلب مستحكم، أو مدافعة للأخبثين لأنّ كل ذلك يخرجه عن حال الاعتدال وكمال التثبّت.
- أن يشعر قلبه الحاجة إلى ربّه ويستمدّ منه المعونة على ما هو بسبيله ليوفّقه إلى الصّواب، ويفتح له طريق الرّشاد، ثمّ يتّجه إلى نصوص الكتاب والسنّة وآثار الصّحابة، ويطّلع على ما أُثر من أقوال العلماء، ويبذل جهده في تعرّف الحكم من أصوله، مستعينا بآثار من سبقه فإن ظفر به، وإلاّ بادر إلى التّوبة والاستغفار، وألحّ في استمداد المعونة من معلم الخير وملهم الصّواب، فإنّ العلم نور يقذفه الله في قلب عبده، والهوى والمعاصي رياح عاصفة، تطفئ ذلك النّور وتنشر الظلمة في أرجاء الصدور.
- أن يتحرّى الحكم بما يرضي ربّه ويجعل نصب عينيه قوله سبحانه: "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ما أنزل الله إليك". [46 المائدة].
فلا يصحّ له أن يعتمد في فتواه على مجرّد وجود الحكم بين أقوال الفقهاء، بل يجب عليه أن يتحرّى ما هو أرجح منها تبعا لقوّة الدّليل، وإلاّ كان متّبعا هواه، وقائلا في دين الله بالتشهّي، ولا يصحّ له أن يفتي بالحيل المحرّمة أو المكروهة، أمّا الحيل التي تخلّص المستفتي من الحرج من غير مفسدة، فإنّها مستحبّة...
ولا يصحّ للمفتي أن يحابي في فتواه، فيفتي بالرّخص من أراد نفعه من أقار به وأصدقائه، أو من طمع في برّه وجدواه، من ذوي الجاه دون غيرهم من عامّة النّاس...." (13)
فالمفتي له شروط، وعلى غير المتخصّص أن يحترم نفسه ليحترمه غيره. فالعامّي لا يجتهد، وعلى العلمانيّ أن يترك الاجتهاد لأهله، وعلى الوصوليّ أن يتوب إلى رشده، ولا يطلق العنان إلى قلمه أو لسانه فيشتم جميع الفقهاء، دون استثناء ويتّخذ قولدماير أنموذجا لحكم المرأة.
وإنّي أنوّه بما كتبه الأستاذ عبد القادر المعالج في عدد فارط لمّا تسائل عن صمت الأساتذة المتخصّصين في العلوم الشّرعيّة الرّهيب في ندوة حول الحوار بين الأديان، في حين دافع اليهودي عن ديانته ودافع المسيحي عن نصرانيّته. أقول له: هل حضر أهل الاختصاص في العلوم الشّرعيّة أو غيرهم.
الخاتمـة:
لا تقضي البلدان الإسلاميّة على الأميّة الدّينيّة ومخاطرها ولا تزيح الفكر المتطرّف وتستأصله من جذوره إلاّ بعد تشريك ذوي الخبرة والتخصّص من رجالات الشّريعة، فمثلما تقدّمت بلادنا مثلا في الميدان الطبّي بعد أن فسحت المجال للأطبّاء بأداء واجبهم المهني بحريّة، لا تتقدّم في الخطاب الدّيني إلاّ بعد أن تفسح المجال للشّيوخ والعلماء المعتدلين الوطنيّين من تقديم النّصح والإرشاد والمعلومة الشّرعيّة الصّحيحة أخذا بالأيسر والأرفق والأوفق والأحوط مراعاة للعصر وتحدّياته. والله الهادي إلى السّواء السّبيل.
الهوامش
1)- الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقّه: ط الرياض مطابع القسيم: 1389هـ 2/157.
2)- الشّاطبي: أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشّريعة: تح محمد عبد الله دراز: دار المعرفة 1994: 4/ 170.
3)- راجع كتاب مقاصد الشّريعة الإسلاميّة للشّيخ الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور: طبع دار سحنون 2006.
4)- بوزغيبة محمّد: وسائل الاجتهاد المقترحة في هذا العصر: مجلّة المشكاة ع 2: 2004، جامعة الزيتونة.
5)- الشّاطبي: م.ن: 4/ 115.
6)- الصنعاني: محمّد بن إسماعيل: إرشاد النقّاد إلى تيسير الاعتماد: ط بيروت 1985: 86.
7)- بوزغيبة: م.ن: 13 وما بعدها.
- أسماء بن دعيّة: كتاب مؤسّسة مفتي الجمهوريّة في تونس، دار سراس للنشر: 2001.
9)- راجع فتاوى شيخ الإسلام محمد العزيز جعيّط: تحقيق محمد بوزغيبة: طبع مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان 1994.
10)- نشرت فتوى في عدّة مواقع كمجلّة الهداية والصّحافة اليوميّة.
11)- راجع كتاب فتاوى الشّيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور جمع وتحقيق محمد بوزغيبة: طبع دبي الإمارات 2004.
12)- محاضرتي: منهج الوسطيّة والاعتدال في الفتاوى التّونسيّة المعاصرة: ألقيت ضمن فعاليات الندوة التي أقامها مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان بالاشتراك مع مركز الدّراسات الإسلاميّة بجامعة أم القرى بمكّة: جامعة الزّيتونة: ماي 2007.
13)- علي حسب الله: أصول التّشريع الإسلامي: دار المعارف مصر: 1971: 95 وما بعدها.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 21, 2011 12:37 am من طرف Admin
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
السبت مايو 21, 2011 12:32 am من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 3
الجمعة مايو 20, 2011 10:10 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 2
الجمعة مايو 20, 2011 10:00 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
الجمعة مايو 20, 2011 9:17 pm من طرف Admin
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 9:08 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:50 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:21 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الأول
الجمعة مايو 20, 2011 7:38 pm من طرف Admin