القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
صفحة 1 من اصل 1
القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية
مقدمة نظرية
تمثل قراءة النصّ الديني هاجسا حداثيّا بما يمكن أن تحدثه من مقالات داخل النصّ و خارجه، و ذلك لارتباطه بمصدريّته و مرجعيّته التين هما مصدر من مصادر التقديس لدى الأفراد و الجماعات، غير أنّ انتهاكها ليس فعلا جديدا و لا أمرا مستحدثا و ذلك أنّ الإنسان و انطلاقا من جبلّته و طبيعته يطاول دوما المقدّس و يعمل جاهدا على السموّ بطاقاته الإبداعيّة كي يعانق الأمثل (تحديثا أو تجديدا أو إبداعا).
لكن السؤال الذي يطرح:
أنّى للتجديد الدينيّ (استقراء أو تفسيرا) بلوغ غاياته في إجلاء الحقائق و بيان خطّ سير ركب الحضارة الإنسانيّة و بلوغ مأربه .إذ الخطاب الإنساني قائم على نظام تداولي يمارس دوما للانزياح و المغايرة المألوفة و الاعتيادات.
غير أنّ العرف فيه كونه كذلك بينما أصول الدين خصوصا و الدّين الإلهي عموما نظم أصل قيامها التأسيس ثمّ تأنيس و لا تأسيس دون القيام على قواعد تخضع أبدا للعابر و المتحوّل و الإنسانيّ.
ثمّ أنّى للتجديد أن يكون في التفسير القرآني أو في أصول الدّين و هو يتوسّل بالكلام و الترديد على غير هدى أو بالإضمار على أن لا أساس للتجاوز إلا بطيء آليات الماضي و جعلها خلفنا، آلته تواضع المرسل و المتلقي (المهجّن) بشكل ضمني و سابق على وجود قيم الإبداع بأنّ لا مهرب من ملاحقة الواقع إلاّ بالدّوس على وقائع التاريخ (قيما و مثلا و تمثلات).
إنّ الآليّة التي تدفع ذلك الشكل الخطابي خاضعة ضرورة إلى معياريّة النظام المتعارف عليه بين المتكلّمين من أصحاب الأيديولوجيات الابتهاجية و قد وضعوا سقفا دلاليّا سوّروا به آليات التحليل و ذلك " بأن لا تتعدّى الكلمات معانيها الأوّليّة المعجميّة. و لئن تعدّت ذلك لتطاول الأشكال الاستعاريّة فيجب أن تكون ضرورة في سياق ما يقرّه السّياق الاجتماعي المتداول و إن يكن لا على هدى أو في ضلال مبين.
إنّ النصّ القرآني باعتباره منجزا إلهيّا (وحيا) و مرسلا تتوسطه آليات تقبل غير مكتنهة (أمين الوحي جبريل) و متقبلا بشريا تتعدّى قدراته الرّساليّة المتاح للبشر (النبيّ ) (ص) فإنّ قدرته على الفعل في الفكر و الواقع و الأحاسيس ستفوق دون جدال القدرات البشريّة و إن أتيح لها الظرف الناجز للفعل و التأثير. و القرآن الكريم خطاب متحوّل دوما و في الآن نفسه نظام و آداء يرتسم كائنا شخصيّا ليدرك بعدئذ كائنه النصّي و كثيرا ما يضحي بنية رمزيّة و كينونة إشاريّة و بذلك يتحوّل من كينونته إلى كينونة أخرى واقعة بل تقرأ فيها كلّ النصوص الدّاخلة في زمرة البنية الإسلاميّة.
I- نظرية تقبل النصّ و فهمه عند القدامى (التراثيين)
1- آليات تقبل النصّ و فهمه أو تفسيره
إنّ النصّ القرآني باعتباره كتابا مقدسا موحى متعبدا بتلاوته متواترا نقله بواسطة ملك الوحي "جبريل" عليه السلام يمثل بنية خطابية و أشكالا من القصّ لا على منوال البشر بيد أنّه يظلّ نصّا قابلا للقراءة و الدرس و التفهم و الإفهام بمستوييه (التداولي و الإدراكي) ففيهما النظام و تموضع الأفعال و الأحداث التي يصفها النصّ ذاته، فالمرء يمكنه التعامل مع دلالات الخطاب الإلهي/ القرآني من منظورات دلاليّة ثلاثة:
الدلالة الأولى: الدلالة التاريخية.
و نعني بها المثبت المكتوب في النصّ حيث صيّرها إشارة لا تدلّ عليه نفسه و لكن على سياقه الخارجي، و ذلك أن الذات الفاعلة في استكناهه ذاتا متحوّلة به من كائنها الشخصي إلى كائنها النصّي فهي لا تذهب بالتاريخ إلى ماضيه في رحلة عسيرة و عصيبة قد تؤدي إلى تأرخة و لكنها تأتي به إليها من خلال النصّ محمّلا بمعاني تصيّره بها و تحوّله فيها. و إنّ هذا ليجعل النصّ يعجّ حركة يجعل التاريخ يغادر ثباته المسجّل في السياق الخارجي للنصّ ليصبح متحرّكا مع كلّ كائن، متحوّلا به في زمن وجوده.
الدلالة الثانية: الدلالة النصيّة.
و نعني بها سياق المعنى، إذ النصّ القرآني نصّ مكتوب تتداوله خاصيّتا (الشفاهي و الكتابي) ضرورة و هو نصوص متداخلة في إطار السورة الواحدة (طرق تركيب، و نظام ربط، و وسائل إبلاغ و بلاغة) يقدّم نفسه نصّا واحدا و إن تجزّأ في إطار تسمياته بيد أنّ المعنى يتحدّد في بنائه النموذجي مختلف بذلك عن اللسانيات و نظمها. فهذه الأخيرة تستخدم مصطلح النصّ للدلالة على المقطع المكتوب أو الشفويّ بغضّ النظر عن طوله. إلا أنّه يشكل كلاّ متماسكا، مقابل ذلك نجد النصّ القرآني يرتدّ إلى بؤرة دلاليّة واحدة في إطار السّور المتعدّدة و هي بؤرة التوحيد.
إنّ الدلالة النصيّة في المنهج النصّانيّ القرآنيّ قائمة على نظم الكلام المتكوّن أساسا من الكلمات فهذه قد تنفك عن جملها و تنفكّ تبعا لها الأصوات عن كلماتها ليستمرّ التمايز في كلّ عنصر مستقلّ أو متشكل شرعة للعلاقة التي تربط ذلك الكلّ بالعناصر الأخرى. و حينها تدور اللغة على نفسها لتعيد تركيب ما تفكّك و إنشاء ما خيّل للمتلقّي أو الشارح أو المفسّر ما دلّ على انفصاله، أنّه مختصّ بوظيفة في اتصاله. و النتيجة المستخلصة، إنّ التركيب المعقّد اتصالا و انفصالا و توليدا معنى يرقى به التركيب في إطار الفهم الموضوعيّ من أصغر وحدة لغويّة إلى جامع النصّ نفسه أي القرآن. بناء على أنّ اللغة عندما تغادر نظامها و أنساقها البنيوية لتدخل نظام النصّ فإنّها لا تبقى أداة ناقلة لكنّها تصبح أداة مبدعة لما تقول أو تصبح هي حقيقة ما تقول. و بالمحصّلة فإنّها (اللغة) تصحّ أن تكون هي الأصل لكلّ ما تمّ الإخبار بها عنه و هكذا يضحي النصّ القرآني في تفكيكه و فهمه و تفسيره فوق المعطى التاريخي و متجاوز للمنتوج الثقافي البعيد و لكن بصفته فاعلا آنيّا يؤسس التاريخ و يؤثر فيه حضوريّا لا كرونولوجيّا.
الدلالة الثالثة: الدلالة الآنيّة.
و نعني بها زمن حدوث النصّ أي زمن تلقيه لا زمن نزوله، و الذي يجب أن تقع مدارسته (تفسيره) و كأنّه أنزل اليوم و بذلك تطوى المسافة بين الذات الأولى (الإرهاق و المشقة في تلقيه) نعني بذلك معاناة الرسول (ص) عند تلقي الوحي و الذات الثانية المبدعة، ذات المفسّر ذلك الكائن المتحوّل بالرسالة تفسيرا. فحضور النصّ كرسالة إبلاغيّة واقعة بين زمنين (زمن التلقّي و الزمن الخطيّ المتعاقب). و حينها فحسب يمكن للنصّ القرآني أن يرقى فوق التوظيف الأيديولوجي أو الاستغلال الدّعويّ الظرفيّ.
و لكي يتحقق ذلك القدر من الحيلولة دون توظيف النصّ أو سلبه قدسيّته و عبوره فوق كلّ حيل الإنسان التوظيفيّة جدير بنا تحديد مجالات ذلك النصّ بالدخول في تخوم ماهيته و فصورنا في التعبير عن تفسيره.
2-القرآن بين دلالاته الماهويّة و دلالاته التفسيريّة.
القرآن لا تنقضي عجائبه و لا يملّ من كثرة الردّ بيد أنّ حضوره في الواقع العملي و في حياة المسلمين يكاد يكون معدوما و إن وقع ترديد آياته في المناسبات الاحتفالية أو اللّوذ به عند الحوالك. غير أنّ المجادلة فيه لم تنقطع إذ ظلت متواترة لم تحجبها سحب المعاندين ممّن مردوا على القول فيه دون تشرّب روحه التي سنعرض لها قريبا بين طيّات تعريفاتنا و تحليلاتنا، تقوّلوا عليه و قد تربّوا بين لغته و شهدوا بلاغته إن سماعا أو مقاربة تفكيكيّة بين جماليّته و جلاله مقارنة بنصوص تأسيسية أخرى (الإنجيل و التوراة). و قد تعدّت مستويات الأقاويل التي دفعتنا للخوض في الموضوع مجال الغرض قول أحد أعضاء مدرسة المحافظين الجدد بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001: " لا يمكن كسب الحرب على الإرهاب إلا بكسب حرب الأفكار، و لا يمكن كسب هذه الأخيرة إلا بكسب إعادة تفسير القرآن.."، ثمّ يضيف: " لقد طلبت قائمة بمفسّرين متنوّرين حداثيين يعيدون تفسير القرآن " (1).
فضلا عمّا نقرؤه بين الفينة و الأخرى في اجتهادات بعض ممّن شدّوا العزم على تفجير النصّ القرآني و مدوّنته التفسيريّة من داخل نظم تكوين نصوصه بل بلغت الجرأة الخوض في مصدريّة النصّ ذاته بالشكّ في محتواه و في ألطف الحالات الغمز في نصوصه بالادعاء كونها عشا تفرّخ بين مفهوم نصوصه خلايا تبيّت أمرا للوقوف سدّا أمام التنويريّة الجديدة و الحداثة و ما بعدها و التي باتت قدرا للمسلم ركوبها و السّير في دروبها النّعل حذو النّعل.
فما المقصود بالقرآن في فهوم المسلمين الروّاد (ماهيته)؟
إذا طوّفنا في مدوّنتنا اللغويّة فإنّ المفهوم اللغوي الذي اشتقّ القرآن منه و الذي يطلق عليه التنزيل العزيز هو مادة " قـرأ " فقرأه و يقرؤه قرءا و قراءة و قرآنا فهو مقروء و يسمى كتابا و قرآنا و فرقانا و معنى القرآن معنى الجمع و سمّى قرآنا لأنّه يجمع السوّر فيضمّها و يضيف صاحب القاموس المحيط معنى التلاوة للقراءة فيقول:" القرآن التنزيل (2) و قرآنا و قارئ من قرأه و قرّاء و قارئين، و قرأه أي تلاه " (3).
و انطلاقا من هذا المفهوم اللغويّ الجديد نستشف مصدريّة القرآن فهو ليس كتابا يضمّ بين دفّتيه آياتا و سورا و إنّما هو كتاب منزل شريف سماوي المصدر، أرضي الرسالة بشري الموجّه إليهم، فالإخبار عن الوحي المنزل على محمّد (ص) باسم القرآن إشارة عرفيّة إلى أنّه موحى به، تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون" (4)، فهو الذي لم ينسج على منوال سابق، متفرّد في نظمه متعدّد في فهمه، و للدلالة على نسجه على غير منوال " قولنا: ما قرأت الناقة سلا قطّ، أي ما ضمّت في رحمها ولدا قطّ و كذلك ما قرأت جنينا، أي لم تحمل جنينا قطّ " (5) و حملا على هذا المعنى و تلك القراءة فإنّ إطلاق اسم القرآن عليه ينمّ على " أنّه كتاب الله خاصة و لم يسمّ به شيء من سائر الكتب غيره " (6).
و إذا كان القرآن الكريم على هذا النحو من المكانة في الضمير و الواقع فإنّ طوافنا في الموسوعة القرآنية (علوم القرآن أو تفسيرا) تؤكد على أنّ تعريفات الروّاد لا تكاد تختلف في مصدريّته أو الدلالة على رسوخ قدمه في التحدّي نظما أو إعجازا أو صرفة أو إخبارا عن الغيوب.. فالذي يجمع أولئك هو الإقرار بمصدره الإلهيّ و شرف متلقيه (المنزل به و المأمور بتبليغه، و أجمل ما وقفنا عليه من تعريفات ما يلي: " القرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب و في القلوب محفوظ، و على الألسن مقروء و على النبيّ محمّد صلى الله عليه و سلّم منزل " (7).
إن ما نلحظ في خصوص تعريف القرآن عدم الإحاطة بقضيّة الجمع و المنع في التعريف، لذلك أراد ابن خلدون سدّ الثلم و بيانه ما ذكره في المقدمة منسوبا للسيوطي فهذا الأخير يضيف إليه " أنّه المتواتر بين الأمّة " ( و يغفل هو الآخر قضيّة التعبّد بتلاوته و هو الحدّ الأدنى الذي يخرج منسوخ التلاوة " و السّور الطائفة من القرآن المترجمة أي المسماة باسم خاصّ توقيفا من النبي صلى الله عليه و سلّم " (9). لذلك سنعرض للتعريف الجامع لكلّ خصائصه المانع من دخول كلّ ما يشرك في حضوته. و ربّما عدّد البعض بعض خصوصياته و ما تميّز به من فضائل و دلّ عليه من جليل الكلام و دقيقه كيف لا " و ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظلمات إلا به، فهو آمر زاجر، و صامت ناطق و حجة على خلقه، ناطق لا يعيا لسانه، و بيت لا تهدم أركانه و لا تهزم أعوانه " (10). لكن ما يمكن استدراكه على التعريف و على وصف مزايا الكتاب العزيز هو اهتمام السابقين به. فهل كان لهم فيه تفسير؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فما مفهومه لديهم و ما خصائصه ؟
3- مفهوم التفسير و خصائصه عند القدامى
نزل الوحي بين ظهراني قوم العربية سليقة لعالمهم و أميّهم، كذلك تسابقوا في حفظ القرآن و تباروا في كنه معانيه، كيف لا و القرآن " نزّل بلغتهم و على أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه " (11)، فكان منهم الحبر و العالم بالحلال و الحرام، كما كان من بينهم الخبير في أسباب النزول. و لم يزل الرسول (ص) يشرح غوامضه و يستدرك على وقائعه فإذا خفيت مسألة كان جوابها مدركا عند نفسه. و لمّا قبض الرسول (ص) و تفرّقت الصحابة في الأمصار و بعدت الشقّة عن موطن نزول الوحي من أثر الفتوح و دخول الأعاجم أضحت الحاجة ماسّة إلى درك صواب التأويل و التفسير بوضع نظم معرفيّة ذات صلة بكتاب الله عمادها حفظة القرآن و أهل الدّراية بحلاله و حرامه و محكمه و متشابهه و خاصّه و عامّه و ناسخه و منسوخه، كلّ ذلك يسير وفق منهج علميّ و إن لم يكن على الشاكلة التنظيميّة المتعارف عليها اليوم و لكن تأسيّا بالقاعدة التي تقول:" العلم إمّا نقل مصدّق عن معصوم، إمّا قول عليه دليل معلوم " (12) و الدليل يمتلكه التابعون نقلا عن الصحابة نقلا صحيحا متواترا. لذلك ظلّ النصّ يساير معالم طريق الفهوم الصحيحة إذ لم يحدث أن تعالى البعض على البعض في العقيدة أو الشريعة أو المزايدة بما يمكن أن يخرج البعض البعض عن حضيرة الإسلام أو ينبو على النصّ بما يمسّ قدسيّته و جلاله فكان الخلاف في التفسير يمسي بين الدليل القاطع على المذهب و التأويل الذي لا أساس له غير الذهاب كلّ مذهب في الغلوّ و العناد بناء على فهم مؤسس على أساس غلبة المراسيل على التفسير لخلوّها من الإسناد شأنها شأن الملاحم و المغازي بيد أنّ المتخصّصين في فنّ التحديث و الرواية يجعلون قاعدة لها أساسها إن المراسيل كسبل إسناد إذا تعدّدت طرقها و خلّت عن المواطأة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا.
و نظرا لنبوّ العقائد عن إضمار المكايد للنصّ فإنّ جلّ التفاسير التي ظهرت بدءا بالرسول (ص) و تثنية بابن عبّاس (ت 68هـ) و عبد الله بن جريج المكيّ (ت 150 هـ) و ابن سلام عبد الله (ت 224 هـ) وصولا إلى ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) و ابن عطيّة أبو محمد الأندلسي (ت 541 هـ) و إن أسس مذهبه على قوله بالتأويل (تأويله قوله تعالى كذا...) فإنّه لا يعدو كون رأيه تفسيرا إذ التأويل عنده مرادف للتفسير. و دليلنا على ما ذهب إليه السلف و دأبوا على نهجه و العمل به و ذلك أنّ فهمه لا يتجاوز معنيين:
أحدهما: تفسير الكلام و بيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه, فيكون التأويل و التفسير متقاربين مترادفين.
ثانيهما: التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام. فإنّ الكلام إن كان طلب كان تأويله نفس الفعل المطلوب، " إن كان خبرا، كان تأويله الشيء نفسه المخبر به. فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها و شؤونها و أحوالها " (13).
إنّ مفهوم التفسير عند الروّاد (القـدامى) كان يسير وفق التلازم بين مفهومي التفسير نفسه و التأويل بدلالة ما ذهب إليه أبو عبيدة (ت 209 هـ) في أنّ " التأويل هو التفسير و المرجع و المصير " (14)، لذلك كان التفسير لدى تلك الطبقة يعادل بيان مدلول اللفظ اعتمادا على دليل شرعيّ. في حين التأويل هو بيان اللفظ اعتمادا على دليل عقلي، غير أنّ ذلك الدليل ليس مطلقا بل تقيّده في مجال التأويل نفسه نظريّة " صرف اللفظ عن المعـنى الرّاجـح إلى المعنـى المرجـوح لدليل يقترن به " (15) و حجّة ذلك من كلام العرب فأوّل تأويلا و الأوّل مشعر بالرجوع و العود و الأوّل كذلك مشعر بالابتداء، فأوّل المسلمين و أوّل يوم، فيه معنى الرّجوع و العود هو المضاف إليه لا المضاف. و آل يؤول إلى الحقيقة كائن بالتقريب أو بالقدر المشترك بينها و بين غيرها و إمّا بغير ذلك.
و تأسيسا على ذلك لم يكن الخلاف بين الفرقاء يمسّ روح النصّ أو الكيد له رغم بروز فرق مارست التجسيد و قالت في الذات و الصفات بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن كفّرت غيرها في مسألة مرتكب الكبيرة. و على الرغم من ذلك فإنّ الإسلام لم يزل يجمعهم كما يذهب إلى ذلك الشهرستاني (ت 548 هـ) في الملل و النحل. بل كانت أهمّ خصائص التفسير لدى تلك المدرسة تميّزها بميزتين أو خاصتين قلّ وجودهما في زمنهما و هما: صفتا الإقدام و الإحجام عن ممارسة عمليّة تفكيك النصّ و تحليله (تفسيره). أمّا خاصيّة الإقدام فمردّها التنبيه على أنّ عملية التفسير " لا ينبغي أن تفهم أنّه يجب أن لا يفسّر القرآن بالاستنباط و الفكر فإنّ من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة و المفسّرين خمسة معان و ستة أو سبعة و يعلم أن جميعها غير مسموع من النبيّ (ص) فإنّها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع، فيكون ذلك مستنبطا بحسب الفهم و طول الفكر للقول المأثور عنه (ص) لابن عبّاس " اللهمّ فقهه في الدّين و علّمه التأويل " (16)، و قوله عزّ و جلّ " أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (سورة محمّد، الآية 24). و ليس ذلك فحسب بل هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، و ذلك ببيان ما تحسن به الدنيا و الآخرة و يلتئم به شعث الدنيا بخير الدّين عبر ممارسة عملية التفسير، " فهو أولى ما يتكلّفه المرء، إذ به يعظم النفع في الدّين و الدّنيا، و سبيله معرفة المعاني ما يقرأ و ما يورد فإنّ الله أودع القرآن من المواعظ و الزواجر و غيرهما ما إذا تأمله المرء وقعت به الكفاية، و لا ينتفع بالقرآن إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه و بعد الفصل بين محكمه و متشابهه " (17).
و أمام هذا الإقدام فإنّ خاصّة الإحجام لها من يدعمها و يقيم الأدلّة على مشروعيّتها. , إنّما ذلك دليل على الكثرة في إطار الوحدة، بل إنّ في سلوك المسلك المحافظ وقوف أمام تجديف بعض المؤوّلة القاضي بجذب النصّ إلى أفق القارئ و المفسّر له حيث بلغت الجرأة بالبعض " المكفّرة " إلى إهدار كينونة النصّ عبر التضحيّة به لفائدة التأويل رغم القيود الموضوعيّة و اللغويّة التي سوّرت " معنى التأويل الصحيح ". غير أنّ المنقر الأريب لا يستغرب تلك الجرأة و الإقدام إذا علم استمداد مشروعيّة القول في معاني القرآن / النصّ إذا كان التفسير علما معدودا ضمن دائرة " العلوم التي كثر عددها و انتشر في الخافقين مددها، إذ غايتها بحر قعره لا يدرك و نهايته طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك و لهذا يفتح لعالم بعد آخر من الأبواب ما لم يتطرق إليه من المتقدّمين " (18) فإذا علمنا ذلك فإنّ مجال الاستغراب يمّحي إلاّ أنّ للتيار المحافظ دعاة يمكن الوقوف على أحد خصائص التفسير عندهم و التي جعلت العمليّة التفسيريّة تقوقعا داخل النصّ و في ذات الحين فإنّ التفسير يعدّ استجابة حضارية لموقف فرض على العقل العربي الانسحاب إلى الداخل و الاعتصام بحدود النصّ. و بفعل ذلك المطب و تلك النظرة التقليدية أضحى القرآن " مصحفا " بل أداة للزينة، و في ذلك تحويل لطبيعته و تعسّف على بنيته المعرفيّة و بنيته الخطابيّة و بنيته الكلاميّة فضلا عن تهميش محلاّت دواله بأركانها الثلاثة (المتكلّم – الخطاب – المستمع) بناء على فرضيّة يجب اعتبارها و هي فرضية كينونة دلالات النصّ و حصرها في أركان تستمدّ دوالها من محلات الدّوال السابقة تلك الدلالات تتمثل في:
أ- دلالة الكلام على منشئه.
ب- دلالة الكلام على ذاته.
ج- دلالة الكلام على متلقيه.
و لا خلاف إذا سمّينا المتكلّم مرسلا (بضمّ الميم و فتح السّين) و أطلقنا على الخطاب رسالة، و نحونا نحو تسمية السامع متلقيّا أو مستقبلا أو مرسلا إليه.
إنّ المتقوقعين داخل أطواق النصّ يخشون الوقوع داخل أسوار " الرجل الذي يسأل عن معنى في كتاب الله عزّ و جلّ فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء و اقتضته قوانين العلم كالنحو و الأصول، و ليس يدخل في هذا الحديث أن يفسّر اللغويون لغته و النحويّون نحوه و الفقهاء معانيه، و يقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين العلم و النظر، فإن القائل على هذه الصيغة ليس قائلا بمجرّد رأيه " (19).
و ليس ذلك فحسب بل إنّ خصيصة الإحجام تستمدّ شرعيّتها من الفهم الاعتزالي الذي قاعدته (العقل قبل ورود السّمع) بيد أن أدبه مع النصّ فهما و تفهيما لا يمكن إغفال مغزاه فهذا إبراهيم بن سيّار النظام (ت 231 هـ) " يوصي بألاّ نسترسل إلى كثير من المفسّرين و إن نصّبوا أنفسهم للعامة و أصابوا في كلّ مسألة، فإنّ كثيرا منهم يقول بغير رواية، لا على غير أساس، و كلما كان المفسّر أغرب عند العامّة كان أحبّ إليهم، لذلك دعا إلى عدم الوثوق برواياتهم ".(20)
و تأسيسا على هذا الرأي الاعتزالي، فإنّ مردّ الخشية ليست الجدّة التي هي مطلب يجب دركه و لطالما عملت المدرسة الاعتزاليّة على فعله في الواقع و لكن الخشيّة كما نفهمها مأتاها الانزياح تأثـرا بالنظريّة الشكلانيّة في الإدراك الحسيّ لتقويـم مقولتـي " التغريب و الطرافة " القيمتين التين تجسدان المعيار الوحيد لتقويم العمل عند الشكلانيين " (20) و هما القيمتان مبعث ريبة الوقوع في الختل و التقوّل، لذلك رأى الباحثون في علوم القرآن وجوب وضع قواعد تحدّ من الزيغ و الأهواء من ذلك:
" – النقل عن رسول الله (ص)
- الأخذ بقول الصحابة (أو بالرجوع إلى أقوال التابعين و طبقات المفسّرين).
- الأخذ بمطلق اللغة.
- التفسير بالمقتضى من معرفة الكلام و المقتضب من قوّة الشرع " (21).
لكن مثل هذه الحدود و غيرها ممّا تحدّث فيه المفسّرون (22) لا يقف عائقا أمام ممارسة التفسير إذا أمن اللّبس من جهتين (أخلاق المفسّر و دينه) و صونه لما ينطق به لآنّ الكتاب المتصدى له ليس ككلّ الكتب إنّه كتاب كريم، فحدّ تفسيره " أنّه علم يعرف به كتاب الله المنزل على نبيّه محمّد صلى الله عليه و سلّم و بيان معانيه و استخراج أحكامه و حكمه " (23) و ربّما توسّعوا في مفهومه بقولهم: " هو علم نزول الآية و سورتها و أقاصيصها و الإشارات النازلة فيها ثمّ ترتيب مكيّها و مدنيّها، و محكمها و متشابهها و ناسخها و منسوخها و عامها و مطلقها و مقيّدها و مجملها و مفسّرها " (24) و قريب من هذا قولهم: بأنّه علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله و سنده و آدابه و ألفاظه المتعلّقة بالأحكام و غير ذلك " (25).
و لما كان النصّ القرآني بهذه القيمة و هذا الوضع هل عملت في وجهه معاول الشكّ أو الريبة عمل المتحدّي له، أم أنّها طاولته في بعض نواحي إعجازه و فرادته ؟
4- النصّ القرآني بين الوحي السّاطع و الوعي الجامح
لما كان الوحي المنزل على قلب رسول الله (ص) وحيا أساس قيامه اللغة، فمن علومها تشكل نصّه الذي سحر العقول سالبا مجامع القلوب التي أشربته مآقيها خاصة لما كان المنزل إليه (ص) يشرح بواطن ما خفي منه و يهيمن على المرسل إليهم بجليل خصاله، الشيء الذي دعا أبا سفيان يجيب هرقل عن سؤال مفاده: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فكانت إجابته قاطعة: " أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على النّاس و يكذب على الله " كان ذلك السنة السادسة للهجرة و أبو سفيان على ملّة آبائه " (26). غير أنّ النصّ و إن تعرّض له رسول الله (ص) بالشرح كلّما أشكل أمر أو تصدّى لفرّ معضلاته ابن عبّاس (حبر الأمّة) مصداقا لقول مجاهد " عرضت المصحف عليه من أوّله إلى آخره مرّات أقف عند كلّ آية و أسأله عنها فكان يجيب عن كلّ آية في القرآن و قد كان يقول من قبل " لا يعلم تأويله إلا الله" (27) فأمام هذا الزمن الوقائعي لمعالم النصّ المستغلقة التي كانت تنفتح أبوابها كلّ مرّة تحت وقع (المرسل لهم – المتقبّلين – أو وقع طبيعة الرسالة المتشكّلة من نمطين من أقوال متداخلين:
- بنية الكلمة الساحرة و إيحاءاتها الأسلوبيّة.
- البنية الدلالية و تشكيلاتها المعنويّة المعقدة.
أمّا البنية الأولى فقد عبّر عن أسرها و أجاب عن سحرها الوليد بن المغيرة لما حضر الموسم و النصّ القرآني لمّا تكتمل معالم بناه الخطابيّة قائلا: " و الله إنّ لقوله لحلاوة و إنّ أصله لعذق و إنّ فرعـه لجناة " (28) فهو يعلو و لا يعلى عليه في إحدى الروايات الأخرى. في حين نجد وقع البنية الثانية في تصوّر المفسّرين و باحثي علوم القرآن و استقرائهم التفسيري لأبعاد النصّ المفهوميّة من بناه العلاميّة المختلفة فالقرآن بذلك " يدلّ على أنّه بكليّته محكم و يدلّ على أنّه بكليّته متشابه و يدلّ على أنّ بعضه محكم و بعضه متشابه ". (29) فلا غرو و الأمر كذلك أن تقول العرب فيه أقوالا كأن يكون " سحرا يؤثر " أو أنّه " أساطير الأوّلين " بيد أنّهم لم يعترضوا على المرسل إليه عبر الادعاء بكون رسالته منتحلة أو أن بعضها لا يصدق بعض، أو بالتعرّض لبعض الرّموز العباديّة، أو باتهام الدّين الذي جاء به محمّد (ص) كونه يحمل بين بناه الخطابيّة الدّعوة إلى العنف عبر التنظير إلى الخلاف و الفرقة.
إنّ الفهوم البسيطة للمتلقّين الأوائل و تفسيراتهم لم ترق فوق جوانب العفويّة و الامتثاليّة التسليميّة، إذ حاولوا مرارا النسج على مناويل النصّ زعما بأنّ لابدّ من عودة قوس بلاغة الكلمة لباريها فجرّبوا نصوصا بديلة كتلك التي قالوا فيها متحدّين محتذين " يا ضفدع نقي فإنّك نعم ما تنقين، لا واردا تنفرين، و لا ماء تكدّرين يا وبر، يا وبر، يدان و صدر و سائرك خصر نفر ". (30)
و كذا قولهم: " و الليل الدامس و الذئب الهامس ما حرمته رطبا إلا ما لحرمته يابس ما قطعت أسيد من رطب و لا يابس " (31). و ربّما حاولوا محاكاة الواقع المادي تشكيلا بيانيّا يماحك نظم القرآن فقالوا " و المبذرات زرعا و الحاصدات حصدا و الذاريات قمحا، و الطاحنات صحنا و الخابزات خبزا و الثاردات ثردا و اللاقمات لقما، إهالة و سمنا قد فضّلكم الله على أهل الوبر و ما سبقكم أهل المدر، ريفكم امنعوه و المعترّ فآووه، و الباغي فناوئوه ". (32)
و الملاحظ أنّ العرب الذين عاصروا الوحي و رافقوا نزوله و تنجيمه كانت فهومهم و تفسيراتهم لما يسمعوه تأتي عفو الخاطر إذ الغاية من مطاولته الضغط على رسول الإسلام من جهة و المحافظة على الكينونة الاجتماعية. لذلك فإنّ مثل المضاهاة المذكورة لمسيلمة و أضرابه " أخسّ من أن نشتغل بها و أسخف من أن نفكّر فيها " (33) فضلا عن " قصور آية و قصر معانيه و خلوّه من أوصاف المعارضات و شروطها، و إنّما هو استراق و اقتطاع من عرض كلام القرآن، و احتذاء لبعض أمثلة نظمه ". (34)
إنّ جموح الوعي لدى بواكير المبدعين الذين تناولوا النصّ القرآني بالدراسة و التحليل و التعليق (تفسير بعض مظاهر الاهتمام فيه) لم يبلغ قمّة تأثيره إلاّ مع سطوع نجم المدرسة الاعتزاليّة التي ستنتقل بالاهتمامات من الطور البلاغي إلى الطور الإبلاغيّ، فإقناع المراغمين و أصحاب الشكيّة فيما ترى تلك المدرسة طريقته الانتقال بالدلالات النصيّة من البيان إلى البرهان بعد أن ظلّ العرفان غير ذي جدوى عند أهل السنّة.
و تأسيسا عليه حملت تلك المدرسة لواء الذبّ عن خوارم المروءات العقليّة و العقيديّة، إذ بلغت ردودها شأوا لا يضاهى ممّا دعا أهل النقل و السمع الردّ عليهم و بذلك انتشرت كتب المقـالات مع أبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ) و الشريف المرتضى (ت 410 هـ) في أماليه فضلا عن القاضي عبد الجبّار (ت 415 هـ) في أماليه أيضا التي جمعها تحت عنوان " المغني في أبواب التوحيد و العدل ".
إنّ تفسير النصّ القرآني لدى أولئك و غيرهما من الإماميّة كان طريقا للإصلاح الدّيني وفق نهج تأصيلي يرى الأقدر على الغوص في بحور نصوص الدّين اللامتناهية " ذلك الذي عرف طبيعة الدّين و خبر سنّة سيّد المرسلين و سبر سيرة الصحابة و التابعين لا من كان دأبه الجمود على الموجود و التمسّك بالمألوف لأنّه هو المعروف " (35).
إنّ ما بلفت النظر خلال فترة الإسلام المبكّر و عصر ازدهاره خلال السبعة قرون الأولى من البعثة المحمّديّة يلحظ الغامزين في النصّ القرآني الطاعنين فيه جلّهم إن لم نقل كلّهم سليلو عقائد غير إسلاميّة (زرادشتية و مانوية و مجسّمة..) لذلك اتجهت سهامهم إلى مصدر القرآن الإلهي فكانت الرّدود الاعتزالية على ذلك بالرّجوع إلى أنّ الأصل في فهم النصّ (الرسالة) يجب أن يتصّل رأسا بالمعنى لا باللفظ و أحيانا قد تصرف الفهوم إلى القول بإعجاز النصّ و دلالته على أنّه إلهيّ المصدر إنّه معجز بذاته، لذلك يجب أن لا تحسب الطعون الموجّهة إلى فهوم النصّ على أنّها من نتاج المسلمين لأنّ ذلك الإلزاق يمكن دفعه من طريقين:
الأوّل: ينبو المسلم العربي أو المستعرب عن الوقوع في مثل تلك الدعوات التشكيكيّة بالنظر إلى انتسابه لـ " عموم البلغاء و ألسنتهم الذربة و أراجيزهم المعربة و أسجاعهم المطربة " (36) و التي وقفت عاجزة أمام مباراة القرآن أو مماثلته أو مجاراته، فكانت القاعدة في معرفة مستغلقات آياته و ضروب إتقان تركيباته لا تستكنه إلا لمن عرف كلام العرب و عرف علم اللغة و علم العربيّة و علم البيان(...) و فنون البلاغة و ضروب الفصاحة و محاسن الحكم و الأمثال " (37) و قد كانوا كذلك عربا خلّصا العربية سليقة فيهم.
الثاني: يتمثل في إسناد العرب رواياتهم و أخبارهم فإذا وردت رواية على غير تلك السنن من فنّ التحديث فإنّ الشك يرقى إلى أصولها و الاختلاق يطال جذورها و دليل ذلك ما نقرأه في المصادر كالخبر الذي رواه البعض و الذي يقول: " إنّ رجلا سأل بعض العلماء عن قول الله عزّ و جل " لا أقسم بهذا البلد " (سورة البلد، الآية1) فأخبر أنّه لا يقسم ثمّ أقسم به في قوله تعالى " و التين و الزيتون و طور سنين و هذا البلد الأمين " (سورة التين، الآيات1و2و3) فقال له أحدهم أيّ الأمرين أحبّ إليك فأجيبك ثمّ أقطعك، أو أقطعـك ثم أجيبك، قال: بل أقطعني ثم أجبني فقال له: إعلم أنّ هذا القرآن نزل على رسول الله (ص) بحضرة رجال و بين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا و عليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به و أسرعوا بالردّ عليه لكن العرب علموا و جهلت، فلم ينكروا و أنكرت " (38) و بالجمع بين الروايات في السند و تتبع ما ورد من طعون في الكتب التي بسطت الموضوع، نجد أغلب المؤاخذات على النصّ تدور على ألسنة من لا دراية له بأصول العربيّة و فنونها. و أنّ الذين ردّوا النصوص بسبب دعوى التناقض أو التكرار أو المخالفة عوام لم يتمرّسوا بفنون القول أو أغراب عن صحيح اللغة و سنن العرب في كلامها. ألا ترى الذين ردّوا الطعون يتحدّثون عن الذين راشوا أسهم الضغائن بوسمهم بسمة تجعلهم خارجين عن حضيرة الإسلام، أغراب، فيومئون إليهم بكونهم (أصحاب دعوى لا وقع للقرآن و فصاحته في نفوسهم إذ يورد أحدهم غيضـا من فيض ضغونهم قائلا: " و ربّما طعنوا في القرآن من جهة المعنى فيقولون أنتم تدّعون أن القرآن معجز بنظمه و زعمتم التحدّي و قرآنكم يكذّبكم (...) و أن في قرآنكم كاذبة و وجه شهادته لما ذكرنا أن في قرآنكم حكاية عن موسى " و أخي هارون هو أفصح منّي لسانا " (سورة طه، الآية ) ثمّ فيه حكاية عن موسى " قال ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري إلى قوله ... إنّك كنت بنا بصيرا " (سورة طه، الآيات ) و هذه إحدى عشرة آية، فإذا قدر فصحيح واحد على نظم إحدى عشر آية في موضع واحد، أفلا يكون الأفصح أقدر " (39).
إنّ المتملي في الطعون الواردة في المدوّنة المبكرة و الفاكرة العربية التي تناولت النصّ القرآني بالدرس يلحظ ما أثبتناه من قبل إمّا جهلا بلغة العرب و لا يستل أحدهم قلمه ليتقوّل إلا أن يكون متهافتا أو أعجميّا لا صلة له بعقيدة الأمّة و نور كتابها. فهؤلاء و أضرابهم ممن مجّدوا، سلاحهم في ذلك العاطفة الجياشة " لا يصلحان أن يكونا مدخلا لدراسة النصّ القرآني " (40) أي تفسيره، لأنّ المزايدة على الأصول و العقائد إمّا جهلا أو عنادا لا يقدّم غير الكمّ الهائل من العدم الادعائي، لأنّ الذي يوحّد الأمّة حول كتابها أكبر من ذلك الذي يفرّقها. فالكتاب العزيز مشروع للقراءة، سهل و يسير على من يسّره الله له " لأنّه ما قال قطّ أحد من سلف الأمّة و لا من الأئمة المتبوعين إن في القرآن آيات لا يعلم معناها و لا يفهمها رسول الله (ص) و لا أهل العلم و الإيمان جميعهم، و إنّما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض النّاس و هذا لا ريب فيه، و إنّما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات و آيات القدر " (41).
إنّ الباحث المتمرّس بنسيج العلاقات الرّابطة بين الفرق الإسلامية المختلفة و كتابهم يلحظ تنوّعا في إطار وحدة بناء على أنّ " كلّ ما جاء به القرآن حقّ و يدلّ على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح و له أصل في الكتاب و القول بالإجبار صحيح و له أصل في الكتاب و من قال بهذا فهو مصيب و من قال بهذا فهو مصيب لأنّ الآية الواحدة ربّما دلّت على وجهين مختلفين و احتملت معنيين متضادين حتّى إذا سئل أحدهم عن أهل القدر و أهل الإجبار فقال: " كلّ مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله و هؤلاء قوم نزّهوا الله و كذلك القول في الأسماء، فكلّ من سمّى الزّاني مؤمنا فقد أصاب و من سمّاه كافرا فقد أصاب و من قال هو فاسق و ليس بمؤمن و لا كافر فقد أصاب، و من قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأنّ القرآن قد دلّ على هذه المعاني " (42).
و لئن كانت فهوم النصّ داخل التنوّع السنّي على الحالة التي وصفناها فإنّ العلاقة بينهم و بين الشيعة الإمامية حول تأويل النصّ و تفسيره لا تكاد تنبو عن إجماع و تماثل " إذ نقل إجماع فرق الشيعة و غيرهم على لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلقد روي أنّ عليّا بن موسى المعروف بابن طاووس (ت 64 هـ) و هو من علمائهم نقل في كتابه " سعد السعود " عن الشهرستاني عن سويد ابن علقمة قال سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: أيّها النّاس الله، الله، إيّاكم و الغلوّ في أمر عثمان و قولكم حرّاق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملإ من أصحاب رسول الله (ص) و ما اختلفنا. و ممّا لا ريب فيه أنّ البغاة أنفسهم كانوا في خلافة الإمام عليّ رضي الله عنه يقرؤون في مصاحف عثمان التي أجمع عليها الصحابة و عليّ فيهم لكن نجم لهم أذناب في العصور التالية فضحوا أنفسهم بسخفهم و كفرهم. " (43)
إنّ المحاولات التفسيريّة التي تحاول التأصيل للقضايا الخلافيّة لا الاختلافيّة إنّما ترنو إلى توسيع شقة الخلاف بين المسلمين. كما تهفو إلى تأصيل النظريّة التي تقول بأن قدر الأمّة الإسلاميّة التفرّق كلّ حزب بما لديهم فرحون. غير " أنّ الواجب إتباع الدليل و ليس في المتشابه آية إلا و يقترن بها ما يدلّ على المراد. و العقل يدلّ على ذلك. فالله تعالى جعل بعض القرآن متشابها ليؤدي إلى إثارة العلم و إلى أن لا يتكل المسلمون على تقليد القرآن، ففيه مصلحة كبيرة. و قد قيل إنّ المراد لا يعلم تأويله على التفصيل عاجلا أو آجلا إلا الله تعالى و إن كان الرّاسخون في العلم يعلمون ذلك على الجملة دون التفصيل " (44)
إنّ المسح الحضاري الباحث في أقدس نصّ من حيث التناول " التفسير أجلى لنا حقيقة التنازع فيه و حوله و أنّ مجال دوالها لا تعدو كونها هوامش و نزعات تربو فوق النزاعات العقائديّة. إنّها تجاذبات مشروعة، فالإسلام في شموله يجمع الكافة، بيد أن الفارق في تناول النصّ القرآني في بعده الأنطولوجي (قراءة و بحثا في المناهج) يظلّ فارقا حضاريّا لا إيمانيّا، و أبرز ملامحه و أنماطه ما يندمغ في الواقع من نحت لشكلين من أشكال الحضارة:
- حضارة الأشخاص.
- حضارة النصوص.
و لإحداث الفارق بين النمطين وجب التوسّل بنمط جديد للقراءة بحيث يحدث تغييرا في البنى التكوينيّة تغييرا جذريّا، و هو تغيير يبدو شبه مستحيل و من ثمّ تبقى قراءة القرآن بغير منظور الوسائل المستوحاة من روح حضارتنا قراءة اسم لا قراءة فعل. و إذا كانت غوامز تأويل النصّ منقولة على رأي المحدّثين وفق أخبار الآحاد فيما نقلنا ( قال أحدهم ... و جاء رجل ... و قيل إنّ ...) فإن العلة حينئذ إذا صارت للجملة لم يطعن فيها بالنادر في الآحاد كما تعلمنا قواعد العقائد و الدروس الأصوليّة و الحديثيّة (علوم الحديث).
II- رؤية الحداثيين للتفسير كمنهج تفكيكي
1- نظريّة النقد الحداثي للنصّ
مقدمة نظرية
يعيش العالم اليوم طفرة حداثيّة طالت حياة الإنسان بل مسّته في أخصّ خصوصياته، إذ أفرزت تلك الطفرات عوالم من البحث و التنقير فبات الإنسان مخبرا تجرى على جسده التجارب و ربّما بلغت جرأة الحداثة التقنية أن نفذت إلى أعماق الإنسان النفسيّة فأحصت عليه طرق تفكيره و عمّقت فيه الحيرة من كلّ شيء و التفكير في كلّ شيء بما في ذلك جانب المقدّس عنده. و لمّا كان القرآن الكريم خطابا تتجلّى خفاياه في ما يستخلص من استنطاق المؤهلين لذلك لا يبوح بحقيقة كينونته و يتأبّى على المتحذلقين من دعاة التنوير المحدثين، فإنّه قد بات معلوما مدى الهيمنة التي تكتنف قداسته و التي يشعر بها العلمانيون فأرادوا عن قصد أو عن غير قصد هتك حجب تلك القداسة مرّة تحت لافتة تطبيق معايير الحداثة القائلة: " بأنّ كلّ شيء متاح للتفكير و كلّ مفكّر فيه واجب استعمال كلّ متاح لفهمه و تقصّي حقائقه " فشعار الحداثة الكبير: الوصول إلى الحقيقة و تجريد الآليات من كلّ الموانع الماديّة و التقديسيّة. و لم يعلم أولئك أنّ الخطاب القرآني مدارا و مسارا مختلف عمّا وضعته الحداثة. و لمّا كان النصّ القرآني نصّا مكتوبا، نصّا يعجّ بشبكة عجيبة من المفردات و التركيبات و ألوان لا تحصى من القصّ التاريخيّ و الاجتماعي، فإنّ النظريات اللّسانيّة و التي هي أحد نتاجات الحداثة المعرفيّة العلميّة، و كذا النظريات الدلاليّة (في التلقّي و القراءة) مضافا إليها المناهج النصّانيّة الحديثة لم تعمل على غير ملامسة ذلك النصّ في بعض تجلياته و تبقى دوائر الغيب التي جاء بها و الغايات التي يريد إخفاءها عن قدرة الإنسان محلّ تجاذب بين مريد الكشف (المفسّر) و مراد المكشوف له (المفسّر له).
إن دلالات القرآن تمتاز عن الدلالات الشبيهة بها بالعمق و الخفاء أحيانا و الإلغاز شكلا و مضمونا أ لا ترى أنّ علماء الأصول و الدّين و هم أقرب المفسّرين و ألزق من يعرف مظان النصّ يدور علمهم حول فرّ مبادئ المطلق و النسبي. و بالتالي فهم يتعاملون مع منظومة النصّ على أسس (دلالة التام و الناقص و المطلق و المقيّد و الدائم و التاريخي و الزماني و الآني) و ذلك بحسب النظر إليها من منظور المرسل أو من منظور المتلقي. و مع ذلك وصلت بل أدى بها البحث إلى الوقوف على حقائق تتفق بمقدار ما تختلف في معطياتها ونتائجها عن تلك التي تقف عليها نظريات التلقي و التأويل و التفسير في النظر إلى الخطاب بعد أن يكتمل قولا و يصبح معناه في حوزة المتلقي فهما.
إنّ المتلقي الحداثي بالمفهوم الأسلوبي أو الحديث بالمفهوم الزمني واقع في تفسير الظواهر القرآنية أو بعض الجوانب النصيّة تحت تأثير نظريّة الخطاب عند تأويله للنصّ انطلاقا من مشروعيّة القراءة التفسيريّة و مشاعيّتها. و لذلك نراه واقعا بين نوعين من الأفعال: (فعل ناقص من جهة و فعل تام شموليّ من جهة ثانية).
أوّلا: فعل ناقص و يتجلّى في تلقيه السّلبي الذي يكتفي بفهمه الخطاب كيفما يكون ثمّ لكونه في ذات الحين فاقد لإحدى آليات النصّ المنظور فيه (تفسير القرآن) و الذي يستوجب ضرورة تفاعلا بين الذات المرسلة و الذات المرسل لها (المتقبلة) و ذلك التفاعل هو المعبّر عنه قديما بـ ( الأسماع و الإشارات و اللطائف و الحقائق) فتلك جملة من المقوّمات التي يجب أن تستحضر كي لا يخرج مشروع القراءات عن حدوده التفسيريّة أو التأويليّة و قد أوجز أحد الباحثين كلّ ذلك في مقدمة طافحة بالمعاني لمّا صرّح " بأنّ كتاب الله بحره عميق و فهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلاّ من تبحّر في العلوم و عامل الله بتقواه في السرّ و العلانيّة.. فالعبارات للعموم و الإشارات للخصوص و هي العقل، و اللطائف للأولياء و هي المشاهد، و الحقائق للأنبياء و هي الاستسلام " (45) فإذا جاوز المفسّر الحداثي الحدّ المصرّح به فقد خالف خطاب الأصل لينتج خطاب فهمه على الخطاب الأصل. و إذا كان في نصّه المنتج (تفسيرا) نقصا فمرده النقص الذي يعاني منه المتلقّي / المفسّر لا تمام الخطاب. و بذلك يبقى المنجز الخطابي دون تمامه ناقصا. فصورة الخطاب الأصل كائنة في إدراك الفاعل لها، سبرا و فهما و معايشة، على مثاله نقصا لا على مثال مرسله تماما و كمالا.
إنّ المفسّر الحداثي و انطلاقا من حدود نظرته للمقدّس بعيون حداثيّة تقتحم حصون المحرّمات و الممنوعات توسّلا بالمناهج الحداثيّة التي كما قرّرنا سابقا، مؤوّلة، مموّهة، لكلّ متاح متقّحمة و مخاتلة. فالمفسّر الحداثي حينئذ ينظر لدلالة الخطاب المتناول في نسبيّتها و نقصها و محدوديّتها من حيث الأصل و الحقيقة إذ لا مقدّس عنده أو كما علّمته قواعد البحث التاريخي أو العلميّ. و لئن كانت القراءات التفسيريّة إنسانيّة نسبيّة فإنّ الجدل القائم بين الذات المفسّر (بضمّ الميم و كسر السّين) و المفسّر(النصّ) يجب أن يكون جدل التداخل و التماهي لا جدل التخارج و التقابل لأنّه بذلك فحسب يضحي الخطاب التفسيريّ خطاب التمام لأنّه ينجز دلالة له و على مثاله. و حينها يكون الزركشيّ (ت 794 هـ) مصيبا لما أقرّ بأنّ: " لو أعطي العبد بكلّ حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه لأنّه كلام الله، و كلامه صفته. و كما أنّه ليس لله نهاية. فكذلك لا نهاية لفهم كلامه. و إنّما يفهم كلّ بمقدار ما يفتح الله عليه، و كلام الله غير مخلوق، و لا تبلغ نهاية فهمه فهوم محدثة، مخلوقة " (46).
و لمّا كان التفسير منتوجا ثقافيّا، إنسانيّا قائما على الممكن و النسبيّ و حاصل في الأفهام على مقدار اختلافها و تفاوتها فإنّه مرهون بشروط تاريخيّة و زماكانيّة، و بظروف ذاتيّة و إنسانيّة بحتة لذلك فهو قائم بالشهادة على وجود مسافة لغويّة بين خطابين:
- الخطاب القرآني.
- خطاب التفسير نفسه.
فهل بالإمكان تجاوز إشكالية المسافة اللغويّة بين الخطابين ؟
إنّ إمكان ذلك واقع لا ريب في وقوعه شرط عرض واقع نشأة اللغة ذاتها على مشرحة البحث الاستقرائي و النصّي (النقلي) و ذلك باستبعاد مسألة " التوقيف " في أصل نشأة اللغة ذاتها و إن مال صاحب " الخصائص " ابن جنّي إلى القول بها بعد أن أثبت في مقدّمة كتابه " أنّ حدّها كونها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم " (47) لكن الرأي الذي يمكن التعامل معه في المجال قيد الإثبات مذهب فخر الدّين الرازي (ت 606 هـ) في المحصول و تاج الدّين الأرموي في الحاصل و سراج الدّين الأرمويّ (ت 682 هـ) في التحصيل و ملخّص كلّ ذلك " إنّ الألفاظ إمّا أن تدلّ على المعاني بذواتها، أو بوضع الله إيّاها أو بوضع النّاس، أو يكون البعض بوضع الله و الباقي بوضع النّاس " (48) و حينها تماما تضحي المسافة اللغويّة بين خطاب و خطاب لها مشروعيّة الإمكان، فهل تطوى بذلك آراء ذهبت إلى " أنّ اللغة توقيف " ؟ و هل يضحي " وارد الأخبار المأثورة بأنّها من عند الله عزّ و جلّ " (49) أمرا لا يلتفت إليه إذا ارتئي ركوب مدارج الحداثة ؟ عن أن الحداثة في فهمنا ليست مطلقة و إنّما ترزح تحت مقاييس ثلاثة: (قابلية الخطإ و كونيّة القيم و الحريّة الذاتيّة). و بذلك يضحي المنجز من تفسير و غيره نسبيّا و إمكانيّة القول إمكانيات للإبداع. بيد أنّ إدراك أن وعي الإنسان غير معصوم و أنّه معرّض للخطإ لا يعني الوقوع في النسبيّة المعوّقة حيث إنّ ذلك يمثل أحد المآخذ الرئيسة لنيتشه Nietzshe على العلوم الإنسانية إذ اعتبرها تخضع لمثل أعلى خاطئ هو الموضوعيّة. و إذا اعتبرنا أن مبحث التفسير ما دامت آلته اللغة، (تخارجها و تداخلها) مبحث بإمكانه الدخول تحت طائلة العلوم الإنسانيّة، فإنّه يظلّ محافظا على المسافة التي تفصل (مصدره عن واقعه). و مستحيل حسب " نيتشه " بلوغ الموضوعيّة لذلك فهي تحيّد المعايير الثابتة التي تحتاجها الحياة، فقابليّة الخطإ تعني قبول النقد و الاعتراض و هو ما تحتاجه كلّ سنّة ثقافيّة بما في ذلك السنّة الدينيّة لتحافظ على قدرتها على الإقناع و على مصداقيّتها ليمكنها البقاء.
نعود إلى الجزء الثاني من المفهوم الأسلوبي الذي تحدثنا عنه و الذي يفسّر النصّ و الذي يقع هذه المرّة تحت تأثير النّوع الثاني من الأفعال المعبّر عنه بـ " الفعل التام أو الشموليّ ".
ثانيا: الفعل التام أو الشموليّ، و نعني به تجاوز القراءة الحداثيّة في تفسير النصّ القرآني عبر العمل الدلاليّ إذ به تصح الدلالة النصيّة باعتبارها فعلا في وقائع النصّ ذاته دالا رمزيّا يتجاوز الأزمنة و يسكن في الآتي على الدوام، كما هو حال النصّ القرآني في دائرة إبداعه الأولى، أو في دائرة "المرسل إليه" المبدع الأوّل في فهمه. كما تحتاج إلى بعد آني تتعيّن فيه الدلالة زمنا في كلّ عصر و هو الذي يعبّر عنه باستمراريّة الأحكام و صلاح الشريعة لكلّ عصر و مصر. و تقوم على الاختلاف بين العصور (بناء على أنّ لكلّ دولة رجالا و لكلّ زمان أحكام) و المتلقين (لعدم ثباتهم على حال و لتحوّلهم الدّائم و المستمرّ) و دون ذلك لا إمكان للحديث عن بعثة الرسل) في كلّ تعيّناتها (...) كما يفتح المجال واسعا للانتقال بالدرس اللغويّ من دراسة نحو الكلمة إلى دراسة نحو الجملة، و من ه
مقدمة نظرية
تمثل قراءة النصّ الديني هاجسا حداثيّا بما يمكن أن تحدثه من مقالات داخل النصّ و خارجه، و ذلك لارتباطه بمصدريّته و مرجعيّته التين هما مصدر من مصادر التقديس لدى الأفراد و الجماعات، غير أنّ انتهاكها ليس فعلا جديدا و لا أمرا مستحدثا و ذلك أنّ الإنسان و انطلاقا من جبلّته و طبيعته يطاول دوما المقدّس و يعمل جاهدا على السموّ بطاقاته الإبداعيّة كي يعانق الأمثل (تحديثا أو تجديدا أو إبداعا).
لكن السؤال الذي يطرح:
أنّى للتجديد الدينيّ (استقراء أو تفسيرا) بلوغ غاياته في إجلاء الحقائق و بيان خطّ سير ركب الحضارة الإنسانيّة و بلوغ مأربه .إذ الخطاب الإنساني قائم على نظام تداولي يمارس دوما للانزياح و المغايرة المألوفة و الاعتيادات.
غير أنّ العرف فيه كونه كذلك بينما أصول الدين خصوصا و الدّين الإلهي عموما نظم أصل قيامها التأسيس ثمّ تأنيس و لا تأسيس دون القيام على قواعد تخضع أبدا للعابر و المتحوّل و الإنسانيّ.
ثمّ أنّى للتجديد أن يكون في التفسير القرآني أو في أصول الدّين و هو يتوسّل بالكلام و الترديد على غير هدى أو بالإضمار على أن لا أساس للتجاوز إلا بطيء آليات الماضي و جعلها خلفنا، آلته تواضع المرسل و المتلقي (المهجّن) بشكل ضمني و سابق على وجود قيم الإبداع بأنّ لا مهرب من ملاحقة الواقع إلاّ بالدّوس على وقائع التاريخ (قيما و مثلا و تمثلات).
إنّ الآليّة التي تدفع ذلك الشكل الخطابي خاضعة ضرورة إلى معياريّة النظام المتعارف عليه بين المتكلّمين من أصحاب الأيديولوجيات الابتهاجية و قد وضعوا سقفا دلاليّا سوّروا به آليات التحليل و ذلك " بأن لا تتعدّى الكلمات معانيها الأوّليّة المعجميّة. و لئن تعدّت ذلك لتطاول الأشكال الاستعاريّة فيجب أن تكون ضرورة في سياق ما يقرّه السّياق الاجتماعي المتداول و إن يكن لا على هدى أو في ضلال مبين.
إنّ النصّ القرآني باعتباره منجزا إلهيّا (وحيا) و مرسلا تتوسطه آليات تقبل غير مكتنهة (أمين الوحي جبريل) و متقبلا بشريا تتعدّى قدراته الرّساليّة المتاح للبشر (النبيّ ) (ص) فإنّ قدرته على الفعل في الفكر و الواقع و الأحاسيس ستفوق دون جدال القدرات البشريّة و إن أتيح لها الظرف الناجز للفعل و التأثير. و القرآن الكريم خطاب متحوّل دوما و في الآن نفسه نظام و آداء يرتسم كائنا شخصيّا ليدرك بعدئذ كائنه النصّي و كثيرا ما يضحي بنية رمزيّة و كينونة إشاريّة و بذلك يتحوّل من كينونته إلى كينونة أخرى واقعة بل تقرأ فيها كلّ النصوص الدّاخلة في زمرة البنية الإسلاميّة.
I- نظرية تقبل النصّ و فهمه عند القدامى (التراثيين)
1- آليات تقبل النصّ و فهمه أو تفسيره
إنّ النصّ القرآني باعتباره كتابا مقدسا موحى متعبدا بتلاوته متواترا نقله بواسطة ملك الوحي "جبريل" عليه السلام يمثل بنية خطابية و أشكالا من القصّ لا على منوال البشر بيد أنّه يظلّ نصّا قابلا للقراءة و الدرس و التفهم و الإفهام بمستوييه (التداولي و الإدراكي) ففيهما النظام و تموضع الأفعال و الأحداث التي يصفها النصّ ذاته، فالمرء يمكنه التعامل مع دلالات الخطاب الإلهي/ القرآني من منظورات دلاليّة ثلاثة:
الدلالة الأولى: الدلالة التاريخية.
و نعني بها المثبت المكتوب في النصّ حيث صيّرها إشارة لا تدلّ عليه نفسه و لكن على سياقه الخارجي، و ذلك أن الذات الفاعلة في استكناهه ذاتا متحوّلة به من كائنها الشخصي إلى كائنها النصّي فهي لا تذهب بالتاريخ إلى ماضيه في رحلة عسيرة و عصيبة قد تؤدي إلى تأرخة و لكنها تأتي به إليها من خلال النصّ محمّلا بمعاني تصيّره بها و تحوّله فيها. و إنّ هذا ليجعل النصّ يعجّ حركة يجعل التاريخ يغادر ثباته المسجّل في السياق الخارجي للنصّ ليصبح متحرّكا مع كلّ كائن، متحوّلا به في زمن وجوده.
الدلالة الثانية: الدلالة النصيّة.
و نعني بها سياق المعنى، إذ النصّ القرآني نصّ مكتوب تتداوله خاصيّتا (الشفاهي و الكتابي) ضرورة و هو نصوص متداخلة في إطار السورة الواحدة (طرق تركيب، و نظام ربط، و وسائل إبلاغ و بلاغة) يقدّم نفسه نصّا واحدا و إن تجزّأ في إطار تسمياته بيد أنّ المعنى يتحدّد في بنائه النموذجي مختلف بذلك عن اللسانيات و نظمها. فهذه الأخيرة تستخدم مصطلح النصّ للدلالة على المقطع المكتوب أو الشفويّ بغضّ النظر عن طوله. إلا أنّه يشكل كلاّ متماسكا، مقابل ذلك نجد النصّ القرآني يرتدّ إلى بؤرة دلاليّة واحدة في إطار السّور المتعدّدة و هي بؤرة التوحيد.
إنّ الدلالة النصيّة في المنهج النصّانيّ القرآنيّ قائمة على نظم الكلام المتكوّن أساسا من الكلمات فهذه قد تنفك عن جملها و تنفكّ تبعا لها الأصوات عن كلماتها ليستمرّ التمايز في كلّ عنصر مستقلّ أو متشكل شرعة للعلاقة التي تربط ذلك الكلّ بالعناصر الأخرى. و حينها تدور اللغة على نفسها لتعيد تركيب ما تفكّك و إنشاء ما خيّل للمتلقّي أو الشارح أو المفسّر ما دلّ على انفصاله، أنّه مختصّ بوظيفة في اتصاله. و النتيجة المستخلصة، إنّ التركيب المعقّد اتصالا و انفصالا و توليدا معنى يرقى به التركيب في إطار الفهم الموضوعيّ من أصغر وحدة لغويّة إلى جامع النصّ نفسه أي القرآن. بناء على أنّ اللغة عندما تغادر نظامها و أنساقها البنيوية لتدخل نظام النصّ فإنّها لا تبقى أداة ناقلة لكنّها تصبح أداة مبدعة لما تقول أو تصبح هي حقيقة ما تقول. و بالمحصّلة فإنّها (اللغة) تصحّ أن تكون هي الأصل لكلّ ما تمّ الإخبار بها عنه و هكذا يضحي النصّ القرآني في تفكيكه و فهمه و تفسيره فوق المعطى التاريخي و متجاوز للمنتوج الثقافي البعيد و لكن بصفته فاعلا آنيّا يؤسس التاريخ و يؤثر فيه حضوريّا لا كرونولوجيّا.
الدلالة الثالثة: الدلالة الآنيّة.
و نعني بها زمن حدوث النصّ أي زمن تلقيه لا زمن نزوله، و الذي يجب أن تقع مدارسته (تفسيره) و كأنّه أنزل اليوم و بذلك تطوى المسافة بين الذات الأولى (الإرهاق و المشقة في تلقيه) نعني بذلك معاناة الرسول (ص) عند تلقي الوحي و الذات الثانية المبدعة، ذات المفسّر ذلك الكائن المتحوّل بالرسالة تفسيرا. فحضور النصّ كرسالة إبلاغيّة واقعة بين زمنين (زمن التلقّي و الزمن الخطيّ المتعاقب). و حينها فحسب يمكن للنصّ القرآني أن يرقى فوق التوظيف الأيديولوجي أو الاستغلال الدّعويّ الظرفيّ.
و لكي يتحقق ذلك القدر من الحيلولة دون توظيف النصّ أو سلبه قدسيّته و عبوره فوق كلّ حيل الإنسان التوظيفيّة جدير بنا تحديد مجالات ذلك النصّ بالدخول في تخوم ماهيته و فصورنا في التعبير عن تفسيره.
2-القرآن بين دلالاته الماهويّة و دلالاته التفسيريّة.
القرآن لا تنقضي عجائبه و لا يملّ من كثرة الردّ بيد أنّ حضوره في الواقع العملي و في حياة المسلمين يكاد يكون معدوما و إن وقع ترديد آياته في المناسبات الاحتفالية أو اللّوذ به عند الحوالك. غير أنّ المجادلة فيه لم تنقطع إذ ظلت متواترة لم تحجبها سحب المعاندين ممّن مردوا على القول فيه دون تشرّب روحه التي سنعرض لها قريبا بين طيّات تعريفاتنا و تحليلاتنا، تقوّلوا عليه و قد تربّوا بين لغته و شهدوا بلاغته إن سماعا أو مقاربة تفكيكيّة بين جماليّته و جلاله مقارنة بنصوص تأسيسية أخرى (الإنجيل و التوراة). و قد تعدّت مستويات الأقاويل التي دفعتنا للخوض في الموضوع مجال الغرض قول أحد أعضاء مدرسة المحافظين الجدد بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001: " لا يمكن كسب الحرب على الإرهاب إلا بكسب حرب الأفكار، و لا يمكن كسب هذه الأخيرة إلا بكسب إعادة تفسير القرآن.."، ثمّ يضيف: " لقد طلبت قائمة بمفسّرين متنوّرين حداثيين يعيدون تفسير القرآن " (1).
فضلا عمّا نقرؤه بين الفينة و الأخرى في اجتهادات بعض ممّن شدّوا العزم على تفجير النصّ القرآني و مدوّنته التفسيريّة من داخل نظم تكوين نصوصه بل بلغت الجرأة الخوض في مصدريّة النصّ ذاته بالشكّ في محتواه و في ألطف الحالات الغمز في نصوصه بالادعاء كونها عشا تفرّخ بين مفهوم نصوصه خلايا تبيّت أمرا للوقوف سدّا أمام التنويريّة الجديدة و الحداثة و ما بعدها و التي باتت قدرا للمسلم ركوبها و السّير في دروبها النّعل حذو النّعل.
فما المقصود بالقرآن في فهوم المسلمين الروّاد (ماهيته)؟
إذا طوّفنا في مدوّنتنا اللغويّة فإنّ المفهوم اللغوي الذي اشتقّ القرآن منه و الذي يطلق عليه التنزيل العزيز هو مادة " قـرأ " فقرأه و يقرؤه قرءا و قراءة و قرآنا فهو مقروء و يسمى كتابا و قرآنا و فرقانا و معنى القرآن معنى الجمع و سمّى قرآنا لأنّه يجمع السوّر فيضمّها و يضيف صاحب القاموس المحيط معنى التلاوة للقراءة فيقول:" القرآن التنزيل (2) و قرآنا و قارئ من قرأه و قرّاء و قارئين، و قرأه أي تلاه " (3).
و انطلاقا من هذا المفهوم اللغويّ الجديد نستشف مصدريّة القرآن فهو ليس كتابا يضمّ بين دفّتيه آياتا و سورا و إنّما هو كتاب منزل شريف سماوي المصدر، أرضي الرسالة بشري الموجّه إليهم، فالإخبار عن الوحي المنزل على محمّد (ص) باسم القرآن إشارة عرفيّة إلى أنّه موحى به، تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون" (4)، فهو الذي لم ينسج على منوال سابق، متفرّد في نظمه متعدّد في فهمه، و للدلالة على نسجه على غير منوال " قولنا: ما قرأت الناقة سلا قطّ، أي ما ضمّت في رحمها ولدا قطّ و كذلك ما قرأت جنينا، أي لم تحمل جنينا قطّ " (5) و حملا على هذا المعنى و تلك القراءة فإنّ إطلاق اسم القرآن عليه ينمّ على " أنّه كتاب الله خاصة و لم يسمّ به شيء من سائر الكتب غيره " (6).
و إذا كان القرآن الكريم على هذا النحو من المكانة في الضمير و الواقع فإنّ طوافنا في الموسوعة القرآنية (علوم القرآن أو تفسيرا) تؤكد على أنّ تعريفات الروّاد لا تكاد تختلف في مصدريّته أو الدلالة على رسوخ قدمه في التحدّي نظما أو إعجازا أو صرفة أو إخبارا عن الغيوب.. فالذي يجمع أولئك هو الإقرار بمصدره الإلهيّ و شرف متلقيه (المنزل به و المأمور بتبليغه، و أجمل ما وقفنا عليه من تعريفات ما يلي: " القرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب و في القلوب محفوظ، و على الألسن مقروء و على النبيّ محمّد صلى الله عليه و سلّم منزل " (7).
إن ما نلحظ في خصوص تعريف القرآن عدم الإحاطة بقضيّة الجمع و المنع في التعريف، لذلك أراد ابن خلدون سدّ الثلم و بيانه ما ذكره في المقدمة منسوبا للسيوطي فهذا الأخير يضيف إليه " أنّه المتواتر بين الأمّة " ( و يغفل هو الآخر قضيّة التعبّد بتلاوته و هو الحدّ الأدنى الذي يخرج منسوخ التلاوة " و السّور الطائفة من القرآن المترجمة أي المسماة باسم خاصّ توقيفا من النبي صلى الله عليه و سلّم " (9). لذلك سنعرض للتعريف الجامع لكلّ خصائصه المانع من دخول كلّ ما يشرك في حضوته. و ربّما عدّد البعض بعض خصوصياته و ما تميّز به من فضائل و دلّ عليه من جليل الكلام و دقيقه كيف لا " و ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظلمات إلا به، فهو آمر زاجر، و صامت ناطق و حجة على خلقه، ناطق لا يعيا لسانه، و بيت لا تهدم أركانه و لا تهزم أعوانه " (10). لكن ما يمكن استدراكه على التعريف و على وصف مزايا الكتاب العزيز هو اهتمام السابقين به. فهل كان لهم فيه تفسير؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فما مفهومه لديهم و ما خصائصه ؟
3- مفهوم التفسير و خصائصه عند القدامى
نزل الوحي بين ظهراني قوم العربية سليقة لعالمهم و أميّهم، كذلك تسابقوا في حفظ القرآن و تباروا في كنه معانيه، كيف لا و القرآن " نزّل بلغتهم و على أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه " (11)، فكان منهم الحبر و العالم بالحلال و الحرام، كما كان من بينهم الخبير في أسباب النزول. و لم يزل الرسول (ص) يشرح غوامضه و يستدرك على وقائعه فإذا خفيت مسألة كان جوابها مدركا عند نفسه. و لمّا قبض الرسول (ص) و تفرّقت الصحابة في الأمصار و بعدت الشقّة عن موطن نزول الوحي من أثر الفتوح و دخول الأعاجم أضحت الحاجة ماسّة إلى درك صواب التأويل و التفسير بوضع نظم معرفيّة ذات صلة بكتاب الله عمادها حفظة القرآن و أهل الدّراية بحلاله و حرامه و محكمه و متشابهه و خاصّه و عامّه و ناسخه و منسوخه، كلّ ذلك يسير وفق منهج علميّ و إن لم يكن على الشاكلة التنظيميّة المتعارف عليها اليوم و لكن تأسيّا بالقاعدة التي تقول:" العلم إمّا نقل مصدّق عن معصوم، إمّا قول عليه دليل معلوم " (12) و الدليل يمتلكه التابعون نقلا عن الصحابة نقلا صحيحا متواترا. لذلك ظلّ النصّ يساير معالم طريق الفهوم الصحيحة إذ لم يحدث أن تعالى البعض على البعض في العقيدة أو الشريعة أو المزايدة بما يمكن أن يخرج البعض البعض عن حضيرة الإسلام أو ينبو على النصّ بما يمسّ قدسيّته و جلاله فكان الخلاف في التفسير يمسي بين الدليل القاطع على المذهب و التأويل الذي لا أساس له غير الذهاب كلّ مذهب في الغلوّ و العناد بناء على فهم مؤسس على أساس غلبة المراسيل على التفسير لخلوّها من الإسناد شأنها شأن الملاحم و المغازي بيد أنّ المتخصّصين في فنّ التحديث و الرواية يجعلون قاعدة لها أساسها إن المراسيل كسبل إسناد إذا تعدّدت طرقها و خلّت عن المواطأة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا.
و نظرا لنبوّ العقائد عن إضمار المكايد للنصّ فإنّ جلّ التفاسير التي ظهرت بدءا بالرسول (ص) و تثنية بابن عبّاس (ت 68هـ) و عبد الله بن جريج المكيّ (ت 150 هـ) و ابن سلام عبد الله (ت 224 هـ) وصولا إلى ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) و ابن عطيّة أبو محمد الأندلسي (ت 541 هـ) و إن أسس مذهبه على قوله بالتأويل (تأويله قوله تعالى كذا...) فإنّه لا يعدو كون رأيه تفسيرا إذ التأويل عنده مرادف للتفسير. و دليلنا على ما ذهب إليه السلف و دأبوا على نهجه و العمل به و ذلك أنّ فهمه لا يتجاوز معنيين:
أحدهما: تفسير الكلام و بيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه, فيكون التأويل و التفسير متقاربين مترادفين.
ثانيهما: التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام. فإنّ الكلام إن كان طلب كان تأويله نفس الفعل المطلوب، " إن كان خبرا، كان تأويله الشيء نفسه المخبر به. فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها و شؤونها و أحوالها " (13).
إنّ مفهوم التفسير عند الروّاد (القـدامى) كان يسير وفق التلازم بين مفهومي التفسير نفسه و التأويل بدلالة ما ذهب إليه أبو عبيدة (ت 209 هـ) في أنّ " التأويل هو التفسير و المرجع و المصير " (14)، لذلك كان التفسير لدى تلك الطبقة يعادل بيان مدلول اللفظ اعتمادا على دليل شرعيّ. في حين التأويل هو بيان اللفظ اعتمادا على دليل عقلي، غير أنّ ذلك الدليل ليس مطلقا بل تقيّده في مجال التأويل نفسه نظريّة " صرف اللفظ عن المعـنى الرّاجـح إلى المعنـى المرجـوح لدليل يقترن به " (15) و حجّة ذلك من كلام العرب فأوّل تأويلا و الأوّل مشعر بالرجوع و العود و الأوّل كذلك مشعر بالابتداء، فأوّل المسلمين و أوّل يوم، فيه معنى الرّجوع و العود هو المضاف إليه لا المضاف. و آل يؤول إلى الحقيقة كائن بالتقريب أو بالقدر المشترك بينها و بين غيرها و إمّا بغير ذلك.
و تأسيسا على ذلك لم يكن الخلاف بين الفرقاء يمسّ روح النصّ أو الكيد له رغم بروز فرق مارست التجسيد و قالت في الذات و الصفات بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن كفّرت غيرها في مسألة مرتكب الكبيرة. و على الرغم من ذلك فإنّ الإسلام لم يزل يجمعهم كما يذهب إلى ذلك الشهرستاني (ت 548 هـ) في الملل و النحل. بل كانت أهمّ خصائص التفسير لدى تلك المدرسة تميّزها بميزتين أو خاصتين قلّ وجودهما في زمنهما و هما: صفتا الإقدام و الإحجام عن ممارسة عمليّة تفكيك النصّ و تحليله (تفسيره). أمّا خاصيّة الإقدام فمردّها التنبيه على أنّ عملية التفسير " لا ينبغي أن تفهم أنّه يجب أن لا يفسّر القرآن بالاستنباط و الفكر فإنّ من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة و المفسّرين خمسة معان و ستة أو سبعة و يعلم أن جميعها غير مسموع من النبيّ (ص) فإنّها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع، فيكون ذلك مستنبطا بحسب الفهم و طول الفكر للقول المأثور عنه (ص) لابن عبّاس " اللهمّ فقهه في الدّين و علّمه التأويل " (16)، و قوله عزّ و جلّ " أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (سورة محمّد، الآية 24). و ليس ذلك فحسب بل هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، و ذلك ببيان ما تحسن به الدنيا و الآخرة و يلتئم به شعث الدنيا بخير الدّين عبر ممارسة عملية التفسير، " فهو أولى ما يتكلّفه المرء، إذ به يعظم النفع في الدّين و الدّنيا، و سبيله معرفة المعاني ما يقرأ و ما يورد فإنّ الله أودع القرآن من المواعظ و الزواجر و غيرهما ما إذا تأمله المرء وقعت به الكفاية، و لا ينتفع بالقرآن إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه و بعد الفصل بين محكمه و متشابهه " (17).
و أمام هذا الإقدام فإنّ خاصّة الإحجام لها من يدعمها و يقيم الأدلّة على مشروعيّتها. , إنّما ذلك دليل على الكثرة في إطار الوحدة، بل إنّ في سلوك المسلك المحافظ وقوف أمام تجديف بعض المؤوّلة القاضي بجذب النصّ إلى أفق القارئ و المفسّر له حيث بلغت الجرأة بالبعض " المكفّرة " إلى إهدار كينونة النصّ عبر التضحيّة به لفائدة التأويل رغم القيود الموضوعيّة و اللغويّة التي سوّرت " معنى التأويل الصحيح ". غير أنّ المنقر الأريب لا يستغرب تلك الجرأة و الإقدام إذا علم استمداد مشروعيّة القول في معاني القرآن / النصّ إذا كان التفسير علما معدودا ضمن دائرة " العلوم التي كثر عددها و انتشر في الخافقين مددها، إذ غايتها بحر قعره لا يدرك و نهايته طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك و لهذا يفتح لعالم بعد آخر من الأبواب ما لم يتطرق إليه من المتقدّمين " (18) فإذا علمنا ذلك فإنّ مجال الاستغراب يمّحي إلاّ أنّ للتيار المحافظ دعاة يمكن الوقوف على أحد خصائص التفسير عندهم و التي جعلت العمليّة التفسيريّة تقوقعا داخل النصّ و في ذات الحين فإنّ التفسير يعدّ استجابة حضارية لموقف فرض على العقل العربي الانسحاب إلى الداخل و الاعتصام بحدود النصّ. و بفعل ذلك المطب و تلك النظرة التقليدية أضحى القرآن " مصحفا " بل أداة للزينة، و في ذلك تحويل لطبيعته و تعسّف على بنيته المعرفيّة و بنيته الخطابيّة و بنيته الكلاميّة فضلا عن تهميش محلاّت دواله بأركانها الثلاثة (المتكلّم – الخطاب – المستمع) بناء على فرضيّة يجب اعتبارها و هي فرضية كينونة دلالات النصّ و حصرها في أركان تستمدّ دوالها من محلات الدّوال السابقة تلك الدلالات تتمثل في:
أ- دلالة الكلام على منشئه.
ب- دلالة الكلام على ذاته.
ج- دلالة الكلام على متلقيه.
و لا خلاف إذا سمّينا المتكلّم مرسلا (بضمّ الميم و فتح السّين) و أطلقنا على الخطاب رسالة، و نحونا نحو تسمية السامع متلقيّا أو مستقبلا أو مرسلا إليه.
إنّ المتقوقعين داخل أطواق النصّ يخشون الوقوع داخل أسوار " الرجل الذي يسأل عن معنى في كتاب الله عزّ و جلّ فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء و اقتضته قوانين العلم كالنحو و الأصول، و ليس يدخل في هذا الحديث أن يفسّر اللغويون لغته و النحويّون نحوه و الفقهاء معانيه، و يقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين العلم و النظر، فإن القائل على هذه الصيغة ليس قائلا بمجرّد رأيه " (19).
و ليس ذلك فحسب بل إنّ خصيصة الإحجام تستمدّ شرعيّتها من الفهم الاعتزالي الذي قاعدته (العقل قبل ورود السّمع) بيد أن أدبه مع النصّ فهما و تفهيما لا يمكن إغفال مغزاه فهذا إبراهيم بن سيّار النظام (ت 231 هـ) " يوصي بألاّ نسترسل إلى كثير من المفسّرين و إن نصّبوا أنفسهم للعامة و أصابوا في كلّ مسألة، فإنّ كثيرا منهم يقول بغير رواية، لا على غير أساس، و كلما كان المفسّر أغرب عند العامّة كان أحبّ إليهم، لذلك دعا إلى عدم الوثوق برواياتهم ".(20)
و تأسيسا على هذا الرأي الاعتزالي، فإنّ مردّ الخشية ليست الجدّة التي هي مطلب يجب دركه و لطالما عملت المدرسة الاعتزاليّة على فعله في الواقع و لكن الخشيّة كما نفهمها مأتاها الانزياح تأثـرا بالنظريّة الشكلانيّة في الإدراك الحسيّ لتقويـم مقولتـي " التغريب و الطرافة " القيمتين التين تجسدان المعيار الوحيد لتقويم العمل عند الشكلانيين " (20) و هما القيمتان مبعث ريبة الوقوع في الختل و التقوّل، لذلك رأى الباحثون في علوم القرآن وجوب وضع قواعد تحدّ من الزيغ و الأهواء من ذلك:
" – النقل عن رسول الله (ص)
- الأخذ بقول الصحابة (أو بالرجوع إلى أقوال التابعين و طبقات المفسّرين).
- الأخذ بمطلق اللغة.
- التفسير بالمقتضى من معرفة الكلام و المقتضب من قوّة الشرع " (21).
لكن مثل هذه الحدود و غيرها ممّا تحدّث فيه المفسّرون (22) لا يقف عائقا أمام ممارسة التفسير إذا أمن اللّبس من جهتين (أخلاق المفسّر و دينه) و صونه لما ينطق به لآنّ الكتاب المتصدى له ليس ككلّ الكتب إنّه كتاب كريم، فحدّ تفسيره " أنّه علم يعرف به كتاب الله المنزل على نبيّه محمّد صلى الله عليه و سلّم و بيان معانيه و استخراج أحكامه و حكمه " (23) و ربّما توسّعوا في مفهومه بقولهم: " هو علم نزول الآية و سورتها و أقاصيصها و الإشارات النازلة فيها ثمّ ترتيب مكيّها و مدنيّها، و محكمها و متشابهها و ناسخها و منسوخها و عامها و مطلقها و مقيّدها و مجملها و مفسّرها " (24) و قريب من هذا قولهم: بأنّه علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله و سنده و آدابه و ألفاظه المتعلّقة بالأحكام و غير ذلك " (25).
و لما كان النصّ القرآني بهذه القيمة و هذا الوضع هل عملت في وجهه معاول الشكّ أو الريبة عمل المتحدّي له، أم أنّها طاولته في بعض نواحي إعجازه و فرادته ؟
4- النصّ القرآني بين الوحي السّاطع و الوعي الجامح
لما كان الوحي المنزل على قلب رسول الله (ص) وحيا أساس قيامه اللغة، فمن علومها تشكل نصّه الذي سحر العقول سالبا مجامع القلوب التي أشربته مآقيها خاصة لما كان المنزل إليه (ص) يشرح بواطن ما خفي منه و يهيمن على المرسل إليهم بجليل خصاله، الشيء الذي دعا أبا سفيان يجيب هرقل عن سؤال مفاده: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فكانت إجابته قاطعة: " أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على النّاس و يكذب على الله " كان ذلك السنة السادسة للهجرة و أبو سفيان على ملّة آبائه " (26). غير أنّ النصّ و إن تعرّض له رسول الله (ص) بالشرح كلّما أشكل أمر أو تصدّى لفرّ معضلاته ابن عبّاس (حبر الأمّة) مصداقا لقول مجاهد " عرضت المصحف عليه من أوّله إلى آخره مرّات أقف عند كلّ آية و أسأله عنها فكان يجيب عن كلّ آية في القرآن و قد كان يقول من قبل " لا يعلم تأويله إلا الله" (27) فأمام هذا الزمن الوقائعي لمعالم النصّ المستغلقة التي كانت تنفتح أبوابها كلّ مرّة تحت وقع (المرسل لهم – المتقبّلين – أو وقع طبيعة الرسالة المتشكّلة من نمطين من أقوال متداخلين:
- بنية الكلمة الساحرة و إيحاءاتها الأسلوبيّة.
- البنية الدلالية و تشكيلاتها المعنويّة المعقدة.
أمّا البنية الأولى فقد عبّر عن أسرها و أجاب عن سحرها الوليد بن المغيرة لما حضر الموسم و النصّ القرآني لمّا تكتمل معالم بناه الخطابيّة قائلا: " و الله إنّ لقوله لحلاوة و إنّ أصله لعذق و إنّ فرعـه لجناة " (28) فهو يعلو و لا يعلى عليه في إحدى الروايات الأخرى. في حين نجد وقع البنية الثانية في تصوّر المفسّرين و باحثي علوم القرآن و استقرائهم التفسيري لأبعاد النصّ المفهوميّة من بناه العلاميّة المختلفة فالقرآن بذلك " يدلّ على أنّه بكليّته محكم و يدلّ على أنّه بكليّته متشابه و يدلّ على أنّ بعضه محكم و بعضه متشابه ". (29) فلا غرو و الأمر كذلك أن تقول العرب فيه أقوالا كأن يكون " سحرا يؤثر " أو أنّه " أساطير الأوّلين " بيد أنّهم لم يعترضوا على المرسل إليه عبر الادعاء بكون رسالته منتحلة أو أن بعضها لا يصدق بعض، أو بالتعرّض لبعض الرّموز العباديّة، أو باتهام الدّين الذي جاء به محمّد (ص) كونه يحمل بين بناه الخطابيّة الدّعوة إلى العنف عبر التنظير إلى الخلاف و الفرقة.
إنّ الفهوم البسيطة للمتلقّين الأوائل و تفسيراتهم لم ترق فوق جوانب العفويّة و الامتثاليّة التسليميّة، إذ حاولوا مرارا النسج على مناويل النصّ زعما بأنّ لابدّ من عودة قوس بلاغة الكلمة لباريها فجرّبوا نصوصا بديلة كتلك التي قالوا فيها متحدّين محتذين " يا ضفدع نقي فإنّك نعم ما تنقين، لا واردا تنفرين، و لا ماء تكدّرين يا وبر، يا وبر، يدان و صدر و سائرك خصر نفر ". (30)
و كذا قولهم: " و الليل الدامس و الذئب الهامس ما حرمته رطبا إلا ما لحرمته يابس ما قطعت أسيد من رطب و لا يابس " (31). و ربّما حاولوا محاكاة الواقع المادي تشكيلا بيانيّا يماحك نظم القرآن فقالوا " و المبذرات زرعا و الحاصدات حصدا و الذاريات قمحا، و الطاحنات صحنا و الخابزات خبزا و الثاردات ثردا و اللاقمات لقما، إهالة و سمنا قد فضّلكم الله على أهل الوبر و ما سبقكم أهل المدر، ريفكم امنعوه و المعترّ فآووه، و الباغي فناوئوه ". (32)
و الملاحظ أنّ العرب الذين عاصروا الوحي و رافقوا نزوله و تنجيمه كانت فهومهم و تفسيراتهم لما يسمعوه تأتي عفو الخاطر إذ الغاية من مطاولته الضغط على رسول الإسلام من جهة و المحافظة على الكينونة الاجتماعية. لذلك فإنّ مثل المضاهاة المذكورة لمسيلمة و أضرابه " أخسّ من أن نشتغل بها و أسخف من أن نفكّر فيها " (33) فضلا عن " قصور آية و قصر معانيه و خلوّه من أوصاف المعارضات و شروطها، و إنّما هو استراق و اقتطاع من عرض كلام القرآن، و احتذاء لبعض أمثلة نظمه ". (34)
إنّ جموح الوعي لدى بواكير المبدعين الذين تناولوا النصّ القرآني بالدراسة و التحليل و التعليق (تفسير بعض مظاهر الاهتمام فيه) لم يبلغ قمّة تأثيره إلاّ مع سطوع نجم المدرسة الاعتزاليّة التي ستنتقل بالاهتمامات من الطور البلاغي إلى الطور الإبلاغيّ، فإقناع المراغمين و أصحاب الشكيّة فيما ترى تلك المدرسة طريقته الانتقال بالدلالات النصيّة من البيان إلى البرهان بعد أن ظلّ العرفان غير ذي جدوى عند أهل السنّة.
و تأسيسا عليه حملت تلك المدرسة لواء الذبّ عن خوارم المروءات العقليّة و العقيديّة، إذ بلغت ردودها شأوا لا يضاهى ممّا دعا أهل النقل و السمع الردّ عليهم و بذلك انتشرت كتب المقـالات مع أبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ) و الشريف المرتضى (ت 410 هـ) في أماليه فضلا عن القاضي عبد الجبّار (ت 415 هـ) في أماليه أيضا التي جمعها تحت عنوان " المغني في أبواب التوحيد و العدل ".
إنّ تفسير النصّ القرآني لدى أولئك و غيرهما من الإماميّة كان طريقا للإصلاح الدّيني وفق نهج تأصيلي يرى الأقدر على الغوص في بحور نصوص الدّين اللامتناهية " ذلك الذي عرف طبيعة الدّين و خبر سنّة سيّد المرسلين و سبر سيرة الصحابة و التابعين لا من كان دأبه الجمود على الموجود و التمسّك بالمألوف لأنّه هو المعروف " (35).
إنّ ما بلفت النظر خلال فترة الإسلام المبكّر و عصر ازدهاره خلال السبعة قرون الأولى من البعثة المحمّديّة يلحظ الغامزين في النصّ القرآني الطاعنين فيه جلّهم إن لم نقل كلّهم سليلو عقائد غير إسلاميّة (زرادشتية و مانوية و مجسّمة..) لذلك اتجهت سهامهم إلى مصدر القرآن الإلهي فكانت الرّدود الاعتزالية على ذلك بالرّجوع إلى أنّ الأصل في فهم النصّ (الرسالة) يجب أن يتصّل رأسا بالمعنى لا باللفظ و أحيانا قد تصرف الفهوم إلى القول بإعجاز النصّ و دلالته على أنّه إلهيّ المصدر إنّه معجز بذاته، لذلك يجب أن لا تحسب الطعون الموجّهة إلى فهوم النصّ على أنّها من نتاج المسلمين لأنّ ذلك الإلزاق يمكن دفعه من طريقين:
الأوّل: ينبو المسلم العربي أو المستعرب عن الوقوع في مثل تلك الدعوات التشكيكيّة بالنظر إلى انتسابه لـ " عموم البلغاء و ألسنتهم الذربة و أراجيزهم المعربة و أسجاعهم المطربة " (36) و التي وقفت عاجزة أمام مباراة القرآن أو مماثلته أو مجاراته، فكانت القاعدة في معرفة مستغلقات آياته و ضروب إتقان تركيباته لا تستكنه إلا لمن عرف كلام العرب و عرف علم اللغة و علم العربيّة و علم البيان(...) و فنون البلاغة و ضروب الفصاحة و محاسن الحكم و الأمثال " (37) و قد كانوا كذلك عربا خلّصا العربية سليقة فيهم.
الثاني: يتمثل في إسناد العرب رواياتهم و أخبارهم فإذا وردت رواية على غير تلك السنن من فنّ التحديث فإنّ الشك يرقى إلى أصولها و الاختلاق يطال جذورها و دليل ذلك ما نقرأه في المصادر كالخبر الذي رواه البعض و الذي يقول: " إنّ رجلا سأل بعض العلماء عن قول الله عزّ و جل " لا أقسم بهذا البلد " (سورة البلد، الآية1) فأخبر أنّه لا يقسم ثمّ أقسم به في قوله تعالى " و التين و الزيتون و طور سنين و هذا البلد الأمين " (سورة التين، الآيات1و2و3) فقال له أحدهم أيّ الأمرين أحبّ إليك فأجيبك ثمّ أقطعك، أو أقطعـك ثم أجيبك، قال: بل أقطعني ثم أجبني فقال له: إعلم أنّ هذا القرآن نزل على رسول الله (ص) بحضرة رجال و بين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا و عليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به و أسرعوا بالردّ عليه لكن العرب علموا و جهلت، فلم ينكروا و أنكرت " (38) و بالجمع بين الروايات في السند و تتبع ما ورد من طعون في الكتب التي بسطت الموضوع، نجد أغلب المؤاخذات على النصّ تدور على ألسنة من لا دراية له بأصول العربيّة و فنونها. و أنّ الذين ردّوا النصوص بسبب دعوى التناقض أو التكرار أو المخالفة عوام لم يتمرّسوا بفنون القول أو أغراب عن صحيح اللغة و سنن العرب في كلامها. ألا ترى الذين ردّوا الطعون يتحدّثون عن الذين راشوا أسهم الضغائن بوسمهم بسمة تجعلهم خارجين عن حضيرة الإسلام، أغراب، فيومئون إليهم بكونهم (أصحاب دعوى لا وقع للقرآن و فصاحته في نفوسهم إذ يورد أحدهم غيضـا من فيض ضغونهم قائلا: " و ربّما طعنوا في القرآن من جهة المعنى فيقولون أنتم تدّعون أن القرآن معجز بنظمه و زعمتم التحدّي و قرآنكم يكذّبكم (...) و أن في قرآنكم كاذبة و وجه شهادته لما ذكرنا أن في قرآنكم حكاية عن موسى " و أخي هارون هو أفصح منّي لسانا " (سورة طه، الآية ) ثمّ فيه حكاية عن موسى " قال ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري إلى قوله ... إنّك كنت بنا بصيرا " (سورة طه، الآيات ) و هذه إحدى عشرة آية، فإذا قدر فصحيح واحد على نظم إحدى عشر آية في موضع واحد، أفلا يكون الأفصح أقدر " (39).
إنّ المتملي في الطعون الواردة في المدوّنة المبكرة و الفاكرة العربية التي تناولت النصّ القرآني بالدرس يلحظ ما أثبتناه من قبل إمّا جهلا بلغة العرب و لا يستل أحدهم قلمه ليتقوّل إلا أن يكون متهافتا أو أعجميّا لا صلة له بعقيدة الأمّة و نور كتابها. فهؤلاء و أضرابهم ممن مجّدوا، سلاحهم في ذلك العاطفة الجياشة " لا يصلحان أن يكونا مدخلا لدراسة النصّ القرآني " (40) أي تفسيره، لأنّ المزايدة على الأصول و العقائد إمّا جهلا أو عنادا لا يقدّم غير الكمّ الهائل من العدم الادعائي، لأنّ الذي يوحّد الأمّة حول كتابها أكبر من ذلك الذي يفرّقها. فالكتاب العزيز مشروع للقراءة، سهل و يسير على من يسّره الله له " لأنّه ما قال قطّ أحد من سلف الأمّة و لا من الأئمة المتبوعين إن في القرآن آيات لا يعلم معناها و لا يفهمها رسول الله (ص) و لا أهل العلم و الإيمان جميعهم، و إنّما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض النّاس و هذا لا ريب فيه، و إنّما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات و آيات القدر " (41).
إنّ الباحث المتمرّس بنسيج العلاقات الرّابطة بين الفرق الإسلامية المختلفة و كتابهم يلحظ تنوّعا في إطار وحدة بناء على أنّ " كلّ ما جاء به القرآن حقّ و يدلّ على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح و له أصل في الكتاب و القول بالإجبار صحيح و له أصل في الكتاب و من قال بهذا فهو مصيب و من قال بهذا فهو مصيب لأنّ الآية الواحدة ربّما دلّت على وجهين مختلفين و احتملت معنيين متضادين حتّى إذا سئل أحدهم عن أهل القدر و أهل الإجبار فقال: " كلّ مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله و هؤلاء قوم نزّهوا الله و كذلك القول في الأسماء، فكلّ من سمّى الزّاني مؤمنا فقد أصاب و من سمّاه كافرا فقد أصاب و من قال هو فاسق و ليس بمؤمن و لا كافر فقد أصاب، و من قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأنّ القرآن قد دلّ على هذه المعاني " (42).
و لئن كانت فهوم النصّ داخل التنوّع السنّي على الحالة التي وصفناها فإنّ العلاقة بينهم و بين الشيعة الإمامية حول تأويل النصّ و تفسيره لا تكاد تنبو عن إجماع و تماثل " إذ نقل إجماع فرق الشيعة و غيرهم على لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلقد روي أنّ عليّا بن موسى المعروف بابن طاووس (ت 64 هـ) و هو من علمائهم نقل في كتابه " سعد السعود " عن الشهرستاني عن سويد ابن علقمة قال سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: أيّها النّاس الله، الله، إيّاكم و الغلوّ في أمر عثمان و قولكم حرّاق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملإ من أصحاب رسول الله (ص) و ما اختلفنا. و ممّا لا ريب فيه أنّ البغاة أنفسهم كانوا في خلافة الإمام عليّ رضي الله عنه يقرؤون في مصاحف عثمان التي أجمع عليها الصحابة و عليّ فيهم لكن نجم لهم أذناب في العصور التالية فضحوا أنفسهم بسخفهم و كفرهم. " (43)
إنّ المحاولات التفسيريّة التي تحاول التأصيل للقضايا الخلافيّة لا الاختلافيّة إنّما ترنو إلى توسيع شقة الخلاف بين المسلمين. كما تهفو إلى تأصيل النظريّة التي تقول بأن قدر الأمّة الإسلاميّة التفرّق كلّ حزب بما لديهم فرحون. غير " أنّ الواجب إتباع الدليل و ليس في المتشابه آية إلا و يقترن بها ما يدلّ على المراد. و العقل يدلّ على ذلك. فالله تعالى جعل بعض القرآن متشابها ليؤدي إلى إثارة العلم و إلى أن لا يتكل المسلمون على تقليد القرآن، ففيه مصلحة كبيرة. و قد قيل إنّ المراد لا يعلم تأويله على التفصيل عاجلا أو آجلا إلا الله تعالى و إن كان الرّاسخون في العلم يعلمون ذلك على الجملة دون التفصيل " (44)
إنّ المسح الحضاري الباحث في أقدس نصّ من حيث التناول " التفسير أجلى لنا حقيقة التنازع فيه و حوله و أنّ مجال دوالها لا تعدو كونها هوامش و نزعات تربو فوق النزاعات العقائديّة. إنّها تجاذبات مشروعة، فالإسلام في شموله يجمع الكافة، بيد أن الفارق في تناول النصّ القرآني في بعده الأنطولوجي (قراءة و بحثا في المناهج) يظلّ فارقا حضاريّا لا إيمانيّا، و أبرز ملامحه و أنماطه ما يندمغ في الواقع من نحت لشكلين من أشكال الحضارة:
- حضارة الأشخاص.
- حضارة النصوص.
و لإحداث الفارق بين النمطين وجب التوسّل بنمط جديد للقراءة بحيث يحدث تغييرا في البنى التكوينيّة تغييرا جذريّا، و هو تغيير يبدو شبه مستحيل و من ثمّ تبقى قراءة القرآن بغير منظور الوسائل المستوحاة من روح حضارتنا قراءة اسم لا قراءة فعل. و إذا كانت غوامز تأويل النصّ منقولة على رأي المحدّثين وفق أخبار الآحاد فيما نقلنا ( قال أحدهم ... و جاء رجل ... و قيل إنّ ...) فإن العلة حينئذ إذا صارت للجملة لم يطعن فيها بالنادر في الآحاد كما تعلمنا قواعد العقائد و الدروس الأصوليّة و الحديثيّة (علوم الحديث).
II- رؤية الحداثيين للتفسير كمنهج تفكيكي
1- نظريّة النقد الحداثي للنصّ
مقدمة نظرية
يعيش العالم اليوم طفرة حداثيّة طالت حياة الإنسان بل مسّته في أخصّ خصوصياته، إذ أفرزت تلك الطفرات عوالم من البحث و التنقير فبات الإنسان مخبرا تجرى على جسده التجارب و ربّما بلغت جرأة الحداثة التقنية أن نفذت إلى أعماق الإنسان النفسيّة فأحصت عليه طرق تفكيره و عمّقت فيه الحيرة من كلّ شيء و التفكير في كلّ شيء بما في ذلك جانب المقدّس عنده. و لمّا كان القرآن الكريم خطابا تتجلّى خفاياه في ما يستخلص من استنطاق المؤهلين لذلك لا يبوح بحقيقة كينونته و يتأبّى على المتحذلقين من دعاة التنوير المحدثين، فإنّه قد بات معلوما مدى الهيمنة التي تكتنف قداسته و التي يشعر بها العلمانيون فأرادوا عن قصد أو عن غير قصد هتك حجب تلك القداسة مرّة تحت لافتة تطبيق معايير الحداثة القائلة: " بأنّ كلّ شيء متاح للتفكير و كلّ مفكّر فيه واجب استعمال كلّ متاح لفهمه و تقصّي حقائقه " فشعار الحداثة الكبير: الوصول إلى الحقيقة و تجريد الآليات من كلّ الموانع الماديّة و التقديسيّة. و لم يعلم أولئك أنّ الخطاب القرآني مدارا و مسارا مختلف عمّا وضعته الحداثة. و لمّا كان النصّ القرآني نصّا مكتوبا، نصّا يعجّ بشبكة عجيبة من المفردات و التركيبات و ألوان لا تحصى من القصّ التاريخيّ و الاجتماعي، فإنّ النظريات اللّسانيّة و التي هي أحد نتاجات الحداثة المعرفيّة العلميّة، و كذا النظريات الدلاليّة (في التلقّي و القراءة) مضافا إليها المناهج النصّانيّة الحديثة لم تعمل على غير ملامسة ذلك النصّ في بعض تجلياته و تبقى دوائر الغيب التي جاء بها و الغايات التي يريد إخفاءها عن قدرة الإنسان محلّ تجاذب بين مريد الكشف (المفسّر) و مراد المكشوف له (المفسّر له).
إن دلالات القرآن تمتاز عن الدلالات الشبيهة بها بالعمق و الخفاء أحيانا و الإلغاز شكلا و مضمونا أ لا ترى أنّ علماء الأصول و الدّين و هم أقرب المفسّرين و ألزق من يعرف مظان النصّ يدور علمهم حول فرّ مبادئ المطلق و النسبي. و بالتالي فهم يتعاملون مع منظومة النصّ على أسس (دلالة التام و الناقص و المطلق و المقيّد و الدائم و التاريخي و الزماني و الآني) و ذلك بحسب النظر إليها من منظور المرسل أو من منظور المتلقي. و مع ذلك وصلت بل أدى بها البحث إلى الوقوف على حقائق تتفق بمقدار ما تختلف في معطياتها ونتائجها عن تلك التي تقف عليها نظريات التلقي و التأويل و التفسير في النظر إلى الخطاب بعد أن يكتمل قولا و يصبح معناه في حوزة المتلقي فهما.
إنّ المتلقي الحداثي بالمفهوم الأسلوبي أو الحديث بالمفهوم الزمني واقع في تفسير الظواهر القرآنية أو بعض الجوانب النصيّة تحت تأثير نظريّة الخطاب عند تأويله للنصّ انطلاقا من مشروعيّة القراءة التفسيريّة و مشاعيّتها. و لذلك نراه واقعا بين نوعين من الأفعال: (فعل ناقص من جهة و فعل تام شموليّ من جهة ثانية).
أوّلا: فعل ناقص و يتجلّى في تلقيه السّلبي الذي يكتفي بفهمه الخطاب كيفما يكون ثمّ لكونه في ذات الحين فاقد لإحدى آليات النصّ المنظور فيه (تفسير القرآن) و الذي يستوجب ضرورة تفاعلا بين الذات المرسلة و الذات المرسل لها (المتقبلة) و ذلك التفاعل هو المعبّر عنه قديما بـ ( الأسماع و الإشارات و اللطائف و الحقائق) فتلك جملة من المقوّمات التي يجب أن تستحضر كي لا يخرج مشروع القراءات عن حدوده التفسيريّة أو التأويليّة و قد أوجز أحد الباحثين كلّ ذلك في مقدمة طافحة بالمعاني لمّا صرّح " بأنّ كتاب الله بحره عميق و فهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلاّ من تبحّر في العلوم و عامل الله بتقواه في السرّ و العلانيّة.. فالعبارات للعموم و الإشارات للخصوص و هي العقل، و اللطائف للأولياء و هي المشاهد، و الحقائق للأنبياء و هي الاستسلام " (45) فإذا جاوز المفسّر الحداثي الحدّ المصرّح به فقد خالف خطاب الأصل لينتج خطاب فهمه على الخطاب الأصل. و إذا كان في نصّه المنتج (تفسيرا) نقصا فمرده النقص الذي يعاني منه المتلقّي / المفسّر لا تمام الخطاب. و بذلك يبقى المنجز الخطابي دون تمامه ناقصا. فصورة الخطاب الأصل كائنة في إدراك الفاعل لها، سبرا و فهما و معايشة، على مثاله نقصا لا على مثال مرسله تماما و كمالا.
إنّ المفسّر الحداثي و انطلاقا من حدود نظرته للمقدّس بعيون حداثيّة تقتحم حصون المحرّمات و الممنوعات توسّلا بالمناهج الحداثيّة التي كما قرّرنا سابقا، مؤوّلة، مموّهة، لكلّ متاح متقّحمة و مخاتلة. فالمفسّر الحداثي حينئذ ينظر لدلالة الخطاب المتناول في نسبيّتها و نقصها و محدوديّتها من حيث الأصل و الحقيقة إذ لا مقدّس عنده أو كما علّمته قواعد البحث التاريخي أو العلميّ. و لئن كانت القراءات التفسيريّة إنسانيّة نسبيّة فإنّ الجدل القائم بين الذات المفسّر (بضمّ الميم و كسر السّين) و المفسّر(النصّ) يجب أن يكون جدل التداخل و التماهي لا جدل التخارج و التقابل لأنّه بذلك فحسب يضحي الخطاب التفسيريّ خطاب التمام لأنّه ينجز دلالة له و على مثاله. و حينها يكون الزركشيّ (ت 794 هـ) مصيبا لما أقرّ بأنّ: " لو أعطي العبد بكلّ حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه لأنّه كلام الله، و كلامه صفته. و كما أنّه ليس لله نهاية. فكذلك لا نهاية لفهم كلامه. و إنّما يفهم كلّ بمقدار ما يفتح الله عليه، و كلام الله غير مخلوق، و لا تبلغ نهاية فهمه فهوم محدثة، مخلوقة " (46).
و لمّا كان التفسير منتوجا ثقافيّا، إنسانيّا قائما على الممكن و النسبيّ و حاصل في الأفهام على مقدار اختلافها و تفاوتها فإنّه مرهون بشروط تاريخيّة و زماكانيّة، و بظروف ذاتيّة و إنسانيّة بحتة لذلك فهو قائم بالشهادة على وجود مسافة لغويّة بين خطابين:
- الخطاب القرآني.
- خطاب التفسير نفسه.
فهل بالإمكان تجاوز إشكالية المسافة اللغويّة بين الخطابين ؟
إنّ إمكان ذلك واقع لا ريب في وقوعه شرط عرض واقع نشأة اللغة ذاتها على مشرحة البحث الاستقرائي و النصّي (النقلي) و ذلك باستبعاد مسألة " التوقيف " في أصل نشأة اللغة ذاتها و إن مال صاحب " الخصائص " ابن جنّي إلى القول بها بعد أن أثبت في مقدّمة كتابه " أنّ حدّها كونها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم " (47) لكن الرأي الذي يمكن التعامل معه في المجال قيد الإثبات مذهب فخر الدّين الرازي (ت 606 هـ) في المحصول و تاج الدّين الأرموي في الحاصل و سراج الدّين الأرمويّ (ت 682 هـ) في التحصيل و ملخّص كلّ ذلك " إنّ الألفاظ إمّا أن تدلّ على المعاني بذواتها، أو بوضع الله إيّاها أو بوضع النّاس، أو يكون البعض بوضع الله و الباقي بوضع النّاس " (48) و حينها تماما تضحي المسافة اللغويّة بين خطاب و خطاب لها مشروعيّة الإمكان، فهل تطوى بذلك آراء ذهبت إلى " أنّ اللغة توقيف " ؟ و هل يضحي " وارد الأخبار المأثورة بأنّها من عند الله عزّ و جلّ " (49) أمرا لا يلتفت إليه إذا ارتئي ركوب مدارج الحداثة ؟ عن أن الحداثة في فهمنا ليست مطلقة و إنّما ترزح تحت مقاييس ثلاثة: (قابلية الخطإ و كونيّة القيم و الحريّة الذاتيّة). و بذلك يضحي المنجز من تفسير و غيره نسبيّا و إمكانيّة القول إمكانيات للإبداع. بيد أنّ إدراك أن وعي الإنسان غير معصوم و أنّه معرّض للخطإ لا يعني الوقوع في النسبيّة المعوّقة حيث إنّ ذلك يمثل أحد المآخذ الرئيسة لنيتشه Nietzshe على العلوم الإنسانية إذ اعتبرها تخضع لمثل أعلى خاطئ هو الموضوعيّة. و إذا اعتبرنا أن مبحث التفسير ما دامت آلته اللغة، (تخارجها و تداخلها) مبحث بإمكانه الدخول تحت طائلة العلوم الإنسانيّة، فإنّه يظلّ محافظا على المسافة التي تفصل (مصدره عن واقعه). و مستحيل حسب " نيتشه " بلوغ الموضوعيّة لذلك فهي تحيّد المعايير الثابتة التي تحتاجها الحياة، فقابليّة الخطإ تعني قبول النقد و الاعتراض و هو ما تحتاجه كلّ سنّة ثقافيّة بما في ذلك السنّة الدينيّة لتحافظ على قدرتها على الإقناع و على مصداقيّتها ليمكنها البقاء.
نعود إلى الجزء الثاني من المفهوم الأسلوبي الذي تحدثنا عنه و الذي يفسّر النصّ و الذي يقع هذه المرّة تحت تأثير النّوع الثاني من الأفعال المعبّر عنه بـ " الفعل التام أو الشموليّ ".
ثانيا: الفعل التام أو الشموليّ، و نعني به تجاوز القراءة الحداثيّة في تفسير النصّ القرآني عبر العمل الدلاليّ إذ به تصح الدلالة النصيّة باعتبارها فعلا في وقائع النصّ ذاته دالا رمزيّا يتجاوز الأزمنة و يسكن في الآتي على الدوام، كما هو حال النصّ القرآني في دائرة إبداعه الأولى، أو في دائرة "المرسل إليه" المبدع الأوّل في فهمه. كما تحتاج إلى بعد آني تتعيّن فيه الدلالة زمنا في كلّ عصر و هو الذي يعبّر عنه باستمراريّة الأحكام و صلاح الشريعة لكلّ عصر و مصر. و تقوم على الاختلاف بين العصور (بناء على أنّ لكلّ دولة رجالا و لكلّ زمان أحكام) و المتلقين (لعدم ثباتهم على حال و لتحوّلهم الدّائم و المستمرّ) و دون ذلك لا إمكان للحديث عن بعثة الرسل) في كلّ تعيّناتها (...) كما يفتح المجال واسعا للانتقال بالدرس اللغويّ من دراسة نحو الكلمة إلى دراسة نحو الجملة، و من ه
مواضيع مماثلة
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 2 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 2 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 21, 2011 12:37 am من طرف Admin
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
السبت مايو 21, 2011 12:32 am من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 3
الجمعة مايو 20, 2011 10:10 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 2
الجمعة مايو 20, 2011 10:00 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
الجمعة مايو 20, 2011 9:17 pm من طرف Admin
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 9:08 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:50 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:21 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الأول
الجمعة مايو 20, 2011 7:38 pm من طرف Admin