خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 2 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
صفحة 1 من اصل 1
خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 2 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
ملامح التناسق الفني في القرآن الكريم و معانيه و تطبيقاته المحدثون مثالا
رمى سيد قطب بسهمه في دراسة التناسق الفني في القرآن الكريم فبلغ شأوا بعيدا إذ لم شتاته من سابقيه مستفيدا من إمكاناته النقدية التي بسطها في كتابه " النقد الأدبي أصوله و مناهجه ". و قد قسم وجهة نظره إلى المسألة بحسب آفاق أو وحدات سمى كل منها تسمية تليق بدرسه البلاغي و نظرته إلى نسيج النص القرآني أسلوبيا و جماليا. فكانت منهجيته وفق و من وافقه كالمفكر الأديب حسيني علي رضوان وفق الطريقة التالية:
الأفق الأول: التناسق بين التعبير و المضمون.
فعلى درب التناسق الفني يراعي النسق التعبيري و يلائم بين العبارة و الحالة المراد تصويرها في القرآن الكريم مما يساعد على إكمال الصورة الحسية و المعنوية و هذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير و التعبير للتصوير و أمثلتها منثورة في كتابه العزيز انتثار حبيبات العقد، قال تعالى: { إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } الأنفال، الآية 22. فكلمة الدواب متناسقة مع الحالة المراد تصويرها هنا، حالة الكفار فهم لا ينتفعون بالهدى الذي جاءهم لأنهم صم و بكم كحالة الدواب من الحيوانات التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم بالصم و البكم فكلاهما يكمل صورة الغفلة الحيوانية... لذلك ذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى القول: " شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا مما يكفي سماعه و العمل به و شبهوا بالبكم في انقطاع الحجة و العجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوه لذلك انتفى العقل عنهم" . و كمثال آخر في الموضع يمكن أن نسوق قوله تعالى: { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } سورة محمد، الآية 12، فلفظي ( يتمتعون ) و ( يأكلون ) يتناسقان مع الحالة المراد تصويرها حالة الكفار بغفلتهم عن الجزاء و الحساب كدابة الأنعام تتمتع و تأكل و تمرح و هي غافلة عن شفرة القصاب، أو غافلة عما سوى الطعام و الشراب. مثال آخر يمكن إدراجه ضمن السياق نفسه و هو قوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } سورة البقرة، الآية 223. فكلمة حرث متناسقة مع الحالة المصورة حيث شبه النساء بالأرض للتشابه بين صلة الزارع بأرضه في الحرث و صلة الزوج بزوجته في العلاقة الخاصة. و بين النبت الذي تخرجه الأرض، و الولد الذي تنتجه الزوجة. و ما في الحالتين من تكثير و عمران و فلاح. مما دعا الشيخ الطاهر بن عاشور إلى قول: " فتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبة خديجة للنبي صلى الله عليه و سلم – الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل" .
الأفق الثاني: استقلال اللفظ برسم الصورة
إن اللفظ قد يستقل برسم صورة شاخصة، و هذه خطوة و أفق أبعد و أرقى من سابقه على طريق التناسق الفني، لأن اللفظ هو الذي يستقل برسم الصورة (...) و هذا الأفق من آفاق التناسق لم يعرف في غير أسلوب القرآن الكريم إذ لا يستطيع كائن ما كان أن يرسم صورة فنية شاخصة بلفظ واحد.
و اللفظ الذي يستقل برسم الصورة له أوضاع ثلاثة: فهو يرسمها تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن و تارة بظله الذي يلقيه في الخيال و تارة بجرسه و ظله معا. فجرس اللفظ هو إيقاعه الذي يلقيه في الأذن و صوته الذي يتلقاه السمع، و هذا الإيقاع ينتج عن إيقاع كل حرف من حروف اللفظ على حدة ثم عن إيقاع الحروف كلها مجتمعة في هذا اللفظ و ما فيها من مدود و غنات، و شدات، و غير ذلك فالذي يتراءى للسامع أو الرائي الانفصال. لكن في مبدإ التصويت و الإيقاع رسما تتولد الوحدة الصوتية فينسجم المختلف و يأتلف المتنافر في جو من الانسجام و الرجع الموسيقي. و من أمثلة الصورة الموسومة بجرس اللفظ قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض } التوبة، الآية 38.
فكلمة إثاقلتم، استقلت برسم الصورة، صورة شاخصة، واضحة المعالم ظاهرة السمات(...) و هذه الصورة رسمها جرس الكلمة و إيقاعها إذ يتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل. إن كلمة إثاقلتم طنّ من الأثقال، و هذه قراءة قالون و حفص و هما أبلغ تصويرا من قراءات أخرى لذلك جعل ابن عاشور " الثقل على مقتضى القراءة فيه تكلف له، أي إظهار أنه ثقل لا يستطيع النهوض، و عسر الانتقال بسبب فيه تعريض بأن بطأهم ليس من عجز لكنه عن تعلق بالإقامة " ، هذا عن المعنى أما عن الجرس فإن إثاقلتم أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة تاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام و اجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول عند إدغامه، و لما كان التثاقل مبعثه الإخلاد ناسب التشديد الحركة و التباطؤ، فوافق التعبير تخيّل إنسان كان في حالة التردد و العطالة. و عديل ذلك أيضا قوله تعالى: { و إن منكم لمن ليوبطئن } سورة النساء، الآية 72، حيث رسم جرس ( ليبطئن ) صورة واضحة المعالم للتبطئة، و لذلك فاللفظة مختارة هنا بما فيها من ثقل و تعثر، و إن اللسان ليتعثر في حروفها و جرسها حتى يأتي على آخرها وهو يشدها شدا و إنها لتصور الحالة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر و التثاقل في جرسها. و مثيله قوله تعالى: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و أتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون } سور هود، الآية 28. إن جرس كلمة ( أنلزمكموها ) رسم صورة شاخصة لأن الكلمة تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، و شدّ بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون و يشدون إليه و هو نافرون، و دخول الاستفهـام على المضـارع هنا " معناه إنكار أصل الإلزام" ، و لما كانوا منكرين فناسب جرس العبارة رسم حالتهم بالحروف. فاللفظ محمل يقيم العسر. فأنت لا تكاد تخرج من عسر حتى تدخل في آخر. و من عسر إلى عسر، حيث تتمنى عدم النطق بها أصلا.
و من الأمثلة التي يستقل المفرد برسمها بظلها الذي يلقيه في الخيـال، قوله تعـالى: { و اتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } سورة الأعراف، الآية 173. فكلمة انسلخ ترسم صورة عنيفة قاسية التخلص من آيات الله بظلها الذي تلقيه في خيال القارئ فالانسلاخ حركة حسية قوية و تعني الملابسة والانفكاك بقوة. و نحن إذ نرى هذا الكافر ينسلخ من لآيات الله انسلاخا، فينسلخ كأنما الآيات إيهاب أو أديم انسلخ الحي من ذاته و أديمه اللاصق بكيانه. " و الانسلاخ هنا مستعار لأنه انفصال معنوي يعني ترك التلبس بالشيء " . و لا يقف الانسلاخ عند ذلك الحد فقد ناسبته النتيجة إذا أضحى المنسلخ كالكلب يلهث إن في حالة الرخاء أو الشدة للدلالة على الحيرة و الضياع. و قد ورد هذا " النبأ المتلو في باب الالتفات لتعدد صور المشهد الواحد " و قد أورده صاحب الفوائد في باب التشبيه، تشبيه شيء بشيء بعد أن تحدث في ما مضى عن تشبيه شيء بشيئين، فالعدول عن النوع الوارد قبله إلى تشبيه شيء بشيء يناسب الواقعة و ذلك لتوافق حالة المتلبس بالكفر / الانسلاخ بلبوس تعدد صور التردد و الحيرة. و من هذا اللون قوله تعالى: { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } سورة القصص، الآية18. فكلمة يترقب رسمت بظلها صورة فنية و هي هيئة الحذر المتلفت و القلق المتوجس، المتوقع للشر في كل لحظة(...) رغم كونه في المدينة ( عنوان الأمن و السلامة و الأمان ). " و رغم ذلك فهو منزعج متحفز للاختفاء و الخروج من المدينة " . و من الأمثلة التي يشترك في رسم الصورة جرس اللفظ و ظله معا: قوله تعالى: { يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا } سورة الطور، الآية 13. ففي هذه الآية اشترك جرس اللفظ ( يدعّون دعّا ) و ظله في تصوير مدلوله، و الدعّ هو الدفع من الظهور بعنف، و هذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يخرج صوتا غير إرادي فيه عين ساكنة هكذا – أع – و هو في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس الدعّ. و مثاله كذلك قول الباري تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } سورة الدخان، الآية 17.
فلفظ اعتلوه يصور مدلوله بجرسه و ظله، فالعتل جرس في الأذن و ظل في الخيال، يؤديان المدلول للحس و الوجدان هذا و جميع ما ذكرناه من الأمثلة عند الحديث عن التخيل الحسي و التجسيم تعتبر أمثلة لهذا النوع من التناسق الفني فالظلال التي تلقيها التعبيرات هناك من هذا القبيل.
الأفق الثالث: التقابل بين صورتين حاضرتين.
التقابل طريقة من طرق التصوير القرآني استخدمها القرآن الكريم لتنسيق صوره التي يرسمها بالألفاظ حيث ينسق بين هذه الصور بفعل المقابلات الدقيقة بينها. و أمثلة ذلك التقابل بين صورتين حاضرتين الصورتان السريعتان البث و الجمع في قوله تعالى: { و من لآياته خلق السماوات و الأرض و ما بث فيهما من دابة و هو على جمعهم إذا يشاء قدير } سورة الشورى، الآية 29. إذ ليس بين بث الدواب في السماوات و الأرض و جمعها إلا كلمة تصدر، و التعبير يقابل بين البث و مشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن الكريم. و من ذلك التقابل بين صورتين – الإماتة و الإحياء – و إحياء الموتى في قوله الباري عـز و جـل: { أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات ألا يسمعون، أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم و أنفسهم أفلا يبصرون } سورة السجدة، الآيتان 26-27. ففي الآيتين صورتان نقلهما القرآن في ومضة عين من القرون الدائرة بعد الحياة و العمران إلى الأرض الحية المنتجة بعد جدب و موت، فالتقابل هنا بين حالتين ( حالتين في الواقع ) لا بين حالة و حالة ، إحياء القرى ثم إماتتها في مقابل موت الأرض ثم إحياؤها، و" قد نيط الاستدلال على اللامشاهد هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة " .
و من ذلك: التقابل في صورة النعيم و العذاب يوم القيامة: فقلما تخلو صورة من صور النعيم الذي يلاقيه المؤمنون في الجنة سواء كان حسيا أو نفسيا من ذلك قوله تعالى: { هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية، تسقى من عين آنية، ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع } و يقابلهم في صورة النعيم { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية، فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة و أكواب موضوعة... } سورة الغاشية آيات من 1 إلى 5. فهنا تقابل بين النعيم و بين العذاب و مثال هذا أكثر في كتاب الله العزيز.
الأفق الرابع: التقابل بين صورة ماضية و صورة حاضرة.
قلنا إن التقابل طريقة من طرق التصوير في القرآن الكريم استخدمت من أجل التنسيق في الصور الفنية و قد بينا في الأفق الثالث التقابل بين صورتين حاضرتين و حالتين واقعتين و في هذا الأفق نوضح التقابل بين صورتين إحداهما حاضرة الآن و الأخرى ماضية في الزمان حيث يعمل الخيال في استحضار هذه الصورة الأخيرة ليقابلها بالصورة المنظورة.
و هذا اللون من التقابل من الصور موجود بوفرة في كتاب الله العزيز من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر: { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } سورة يس، الآية 76.
الصورة الماضية تمثلها النطفة / الخميرة، في حين أن الصورة الحاضرة هي صورة الإنسان الخصم المبين، و قد رسمت الصورتان في هذه الآية في تقابل متناسق، تقابل تخييلي يعمل فيه الخيال لاستحضار النطفة الحقيرة و استحضار المسافة المديدة بين الإنسان و النطفة من جهة و الإنسان الخصيم من جهة ثانية.
و منه قوله تعالى: { و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم و حميم و ظل من يحموم لا بارد و لا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } سورة الواقعة، الآيات 43-48.
فالصورة الحاضرة هنا هي صورة أصحاب الشمال في نار جهنم، في السموم و الحميم و الظل من اليحموم تقابلها الصورة الماضية لأصحاب الشمال عندما كانوا في الدنيا، حيث كانوا فيها مترفين، و ما أشد ألم عذاب المترفين ! و منه قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي و قيل من راق و ظن أنه الفراق و التفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق. فلا صدق و لا صلى. و لكن كذب و تولى. ثم ذهب إلى أهله يتمطى } سورة القيامة، الآيات 25-32. فالصورة الحاضرة هنا هي صورة الكافر المحتضر و قد بلغت روحه تراقيه و التفت ساقه بساقه و أيقن أنه مفارق، مقبل على ربه، هنا يستحضر خياله، صورته الماضية يوم كونه متولي ذهب إلى أهله يتمطى، فلا صدق و لا صلى... و ما أكثر صور التقابل بين صورتين ماضية و حاضرة في القرآن الكريم.
الأفق الخامس: تناسق الإيقاع الموسيقي في الصورة
موسيقا اللفظ و موسيقا الكلمة و موسيقا الحرف كل ذلك متوفر في القرآن الكريم لأنه متكون من جمل و ألفاظ عربية. و اللغة العربية بجملها و ألفاظها و مفرداتها، لغة موسيقية فنية. و تبدو موسيقية اللغة في اختلاف مخارج الحروف و اختلاف صفاتها و اختلاف حركاتها و سكناتها كما تبدو في اختلاف الكلمات من حيث جرسها و نغماتها و في اختلاف العبارات من حيث إيقاعها. و بهذه المكونات مجتمعة يغدو القرآن الكريم إيقاعا موسيقيا جذابا. و هذا الإيقاع يتألف من عدة عناصر.
- من مخارج الحروف و الكلمة الواحدة.
- و من تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة و من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات، و من الفاصلة ذاتها.
و الإيقاع الموسيقي منتشر في القرآن جميعه، فحيثما تلا المؤمن القرآن أحس بالإيقاع الداخلي في سياقه، لكنه يبرز واضحا في السور القصار و الفواصل السريعة، و مواضع التصوير، و التشخيص بصفة عامة. و يتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال، و هذا الإيقاع الموسيقي متناسق متزن في كتابه العزيز. و هذا التناسق و الاتزان ألوان:
اللون الأول:أن يكون إيقاعا ناتجا عن فواصل متساوية في الوزن تقريبا متحدة في حرف التثنية تماما، ذات إيقاع موسيقي متحد، و يكون اختيار الألفاظ تبعا لهذا الإيقاع، حيث إذا حذف لفظ منها اختلفت القافية و تأخر الإيقاع: مثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم { و النجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم و ما غوى، و ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى... } إلى قوله تعالى: {أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } فالايقاع الموسيقى هنا: متوسط الزمن تبعا لتوسط الجملة الموسيقية في الطوال متحد تبعا لتوحد الأسلوب الموسيقي، مسترسل الروي كجو الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي. و اختيرت الألفاظ لتناسب الإيقاع، في قوله تعالى: { أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى }، فلو أنك قلت: { أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة } لاختلت القافية، و لتأثر الإيقاع، و كذلك قوله تعالى: { ألكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى }، لاختل الإيقاع المتغير بكلمة إذا. فكلمة ( الأخرى) ، و كلمة ( إذا ) جاءتا لتؤديا معنى في السياق و لتؤديا تناسبا في الإيقاع في وقت واحد.
اللون الثاني: من ألوان التناسق في الإيقاع الموسيقي أن يعدل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصة مراعاة للإيقاع الموسيقي للآيات: مثال ذلك قول الباري تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لقومه: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم و آباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين و الذي هو يطعمني و يسقين، و إذا مرضت فهو يشفين، و الذي يميتني ثم يحيين، و هو الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } سورة الشعراء، الآيات من 75 إلى 82. ففي هذا المقطع المنغم خطفت ياء المتكلم في: ( يهدين، يسقين، يشفين، يحيين ) محافظة على حرف القافية مع ( تعبدون، الأقدمون، الدين ). و قد لا يتكلم على هذا الفن من لا يستوعب أصوله لذلك ألمح شيخنا محمد الطاهر بن عاشور إلى القراءة مسندا إياها إلى أهلها. لكنه مر سريعا على كل مواضعها من ذلك قوله: تعليقا على أول موضع للخطف من سورة البقرة : { و أوفوا بعهدي أوف لعهدكم و إياي فارهبون } سورة البقرة، الآية 40. حذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية للجمهور من العشرة وصلا و وقفا دون الوصل (...) و اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل الوقف لأن الكلمة فارهبون كتبت في المصحف الإمام دون ياء و قرئت كذلك في سنة القراءة، و وجه ذلك أنها وقعت فاصلة فاعتبروها كالموقوف عليها (...) و لو لم تكن ياء المتكلم هي فاصلة من الآي لما اتفق الجمهور على حذفها" . ثم إننا لا نجده يتجاوز ذلك عند حديثه عن الخطف، في قوله تعالى: { فأخاف أن يقتلون } سورة الشعراء، الآية 14. في توطئة هذا المقطع الذي نحن بصدد تحليله نسقيا / فنيا. إذ يضيف لما ذكرنا عند تعليقه على قوله تعالى: { و إياي فارهبون } " حذفت ياي المتكلم من يقتلون للرعاية على الفاصلة " . و يشفع بحثه في إثبات ما سلف من قوله: " الخطف لأجل التخفيف و رعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها " . فأين هذا من مراعاة السمع و الإيقاع و ألوان التناسق و العدول عن صورة إلى غيرها ؟
اللون الثالث: من ألوان التناسق في الإيقاع الموسيقي أن يبنى على نحو يختل إذا قدمت أو أخرت فيه أو عدلت في النظم أي تعديل. و في هذه الحالة تلحظ الموسيقى الكامنة في النسق القرآني بحاسة خفية فنية و هبة لدنية مباشرة، تلحظ و تتذوق و لكنها تستعصي على الشرح و التبيين. مثال ذلك قوله تعالى: { ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا } سورة مريم، الآية 04. فلو حاولت مثلا أن تغير فقط وضع كلمة (مني ) فتجعلها سابقة لكلمة ( العظم ) قال ربي إن العظم وهن مني لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر و ذلك أنها تتوازن مع إني صدر الفقرة، و هكذا: { قال رب إني وهن العظم مني } فالموسيقا الداخلية موجودة في التعبير القرآني موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات و أدنى الاهتزازات. " فاشتعل الرأس الشيب أبلغ من كثر الشيب الرأس " . و لا يفهم من هذا الأفق أن القرآن يحرص على مراعاة الفاصلة فقط، و إنما يؤدي معنى موضوعيا ملحوظا. فيجمع بين الغرض الديني و بيان الغرض الفني، كما يجمع بين التناسق الفني و التناسق الموضوعي الديني في التعبير. و هذا من عجائب الغرض الفني المعجز في الأداء البياني للقرآن. و ليس عجيبا أن نجد أهل البيان كل يلقي بدلوه لاستجلاء قيم الإبداع في الرسم الدقيق بالكلمات. قال الباقلاني مندهشا " هذا بديع القرآن و هو باب مقرر و باب مصور " حيث إنه لم يكتف بالإحساس بالتقرير إذ تعداه إلى التصوير و بهذه الخاصة إدراك بالخيال عجيب حتى يسبح فيه كل سباحة. و ليس ذلك فحسب بل إننا نحد علما آخر يعجب فيقضي العجب قائلا " لو كانت الفصاحة عائدة إلى مفردات هذه الآية فلا يخلو إما أن يكون ثبوت الفصاحة في كل واحد منها يتوقف على أن يعقبه الآخر أو لا يتوقف " .
الأفق السادس: التناسق في رسم الصورة
الصورة الفنية في القرآن الكريم مرسومة بتناسق فني ساحر حيث توافر لها أدق مظاهر التناسق الفني. و ألوان التناسق في رسم الصورة ثلاثة هي:
الأول: ما يسمى بوحدة الرسم بمعنى أن تكون أجزاء الصورة مؤتلفة مع بعضها من غير تنافر.
الثاني: توزيع أجزاء الصورة بعد تناسبها مع الرقعة بنسب معينة حتى لا يزحم بعضها بعضا و لا تفقد تناسقها في مجموعها.
الثالث: اللون الذي ترسم به، و التدرج في الظلال بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة و الموضوع.
و هذه الألوان الثلاثة للتناسق متوفرة في الصورة الفنيّة التي ترسمها الريشة و الماء و الألوان. كما أنّها متوافرة في توزيع المشاهد المسرحية و السينمائية، و قد توفر هذه الألوان الثلاثة للتناسق في التصوير الفنّي في القرآن حتى تأتي الصورة فيه مرسومة بتناسق و اتساق، يدل على سمو الإعجاز الفنّي فيه. لأنّ وسيلة القرآن في رسم هذه الصورة المتناسقة هي الألفاظ فقط. و من الأمثلة القرآنية على التناسق في رسم الصورة، سورة الفلق، قال تعالى: { قل أعوذ بربّ الفلق، من شرّ ما خلق، و من شرّ غاسق إذا وقب، و من شرّ النفاثات في العقد، و من شرّ حاسد إذا حسد }. إن الجو العام المراد إطلاقه على السورة هو ( جوّ التعويذة ) بما فيه من خفاء و هيمنة و غموض و إبهام، و قد جاء التناسق بين جزئيات السّورة فيما بينها و في توزيعها على الرقعة المرسومة عليها و في ألوانها و ظلالها جاء متناسقا مع جوّ التعويذة العام بما فيه من غموض و إبهام. فجزئيات الصورة جاءت تحقق الغموض و الإبهام في الجوّ العام و تتناسق معه هذه الجزئيات في الألفاظ التالية: ( الفلق ) و هو يعني هنا ( الفجر) لما في الفجر من غموض و إبهام يتناسق مع جو التعويذة. و ( ما ) الموصولة الشاملة ( من شر ما خلق ) و في تنكيرها و شمولها لكل مخلوق يتحقق الغموض و الإبهام المحفوف بغشاوة. و لعلّ من الأوائل الذين التفتوا إلى المعاني الغامضة و التي لا تعني بحال من الأحوال التعميّة على السامع أو المتملي اللمسات البيانية العجيبة التي تفطن إليها جار الله الزمخشري كما سبق و أن قلنا. إنه من البواكير الذين نظروا إلى معنى أن يأخذ القرآن بعضه برقاب بعض، خاصة التناسق الواقع في مستوى اللوحة الفنيّة العامة – Tableau – التي تلقى بل تتظافر في رسم جمالها المحسوسـات ( المسموعات ) مع ما يصحب ذلك من مرئيات، يزيد الجانب التخيلي بداعة في تناسب الظلال مع لمحاته و تناغم كل ذلك مع الرسم بالألفاظ و النبرات، و جمال توزيع الحروف و أخذ بعضها برقاب بعض، مما استفز جار الله و في أكثر من موضع أن يستوحي من التعويذة ما يلي: " التعوّذ من شر الليل لأن انبثاثه فيه أكثر، و التحرّر أصعب و فيه قولهم: ( الليل أخفى الويل ) فإن قلت: ما معنى الاستعاذة من شرّهنّ ؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه:
1- أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السّحر و من إثمهن في ذلك.
2- أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهن و ما يخدعنهم به من باطلهنّ.
3- أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشرّ عن نفثهنّ.
و إن قلت: قوله ( من شر ما خلق ) تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق و النفاثات و الحاسد ؟ قلت: قد خصّ شرّ هؤلاء من كل شرّ لخفاء أمره و أنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأن يغتال به. فإن قلت فلم عرف بعض المستعاذ منه و نكّر بعضه ؟ قلت: عرّفت النفاثات لأنّ كل نفاثة شريرة، نكّر غاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشرّ إنما يكون بعض دون بعض، و كذلك كل حاسد لا يضرّ و رب حسد محمود لقول النبي صلى الله عليه و سلم : لا حسد إلا في اثنتين " . فانظر إلى هذا التفاعل مع المنطوق كيف تجاذبه المفهوم و كيف وقع التفطن إلى المسكوت عنه الخفي بواسطة الجليّ، و الذي عماده الخطرة الصادقة و الفهم المتبحر لللغة و أبعاد فحواها الرمزي و الدلالي.
أما ( من شر غاسق إذا وقب ) و هو الليل إذا عم ظلامه كل شيء، أضحى مرهوبا مخوفا. و ( شر النفاثات في العقد ) و هو النفث في العقد من الساحرات كل رهبة و خفاء،و ظلام، و غالبا لا ينفث إلا في الظلام. حيث الغموض و الإبهام في النفث في العقد و في الليل المظلم و في نفوس الساحرات، و ( شر حاسد إذا حسد )، و الحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس غامض مرهوب. و من أجل التناسق بين جزئيات الصورة، و بين الجوّ العام الذي يطلق حولها، نرى التعبير القرآني يعدل عن لقطة إلى أخرى تحقق هذا التناسق. ففي هذه الصورة فضلت كلمة ( الفلق ) على كلمة ( النور ) لماذا ؟ لأن النور يكشف الغموض المرهوب و لا يتسق مع جوّ الغسق، و النفث في العقد. و لا مع جو الحسد. و الفلق يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية. ثم يتسق الجو العام من الوجهة التصورية و هي مرحلة قبيل سطوع النور تجمع بين النور و الظلمة و لها جوّها الغامض المسحور.
أما أجزاء الصورة التي أمامنا فهي من ناحية الفلق و الغاسق مشهد من مشاهد الطبيعة و من ناحية ( النفاثات في العقد ) و ( حاسد إذا حسد ) مخلوقان آدميان و من ناحية ( الفلـق و الغاسق ) مشهدان متقابلان في الزمان و من ناحية ( النفاثات و الحاسد ) جنسان متقابلان في الإنسان. فهذه الأجزاء الأربعة موزّعة على الرقعة توزيعا متناسقا و متقابلة تقابلا متناسقا. و هي كلمات ذات لون واحد و هو لون الغموض و الإبهام و الرهبة، هذا اللون متناسق مع الجوّ العام جوّ الغموض و الإبهام.
و لنضرب مثالا آخر للتناسق في رسم الصورة: التناسق المعجز في رسم الصورة القرآنية بألوانه الثلاثة:
- وحدة الرسم.
- و توزيع الأجزاء
- و تناسق الألوان و الظلال مع الجو العام.
فلقد عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر و قبل احتفالها بالنبات مرة بأنها هامدة و مرة أخرى بأنها خاشعة، فلم هذا الاختلاف في التعبير ؟ هل هو لمجرّد التنويع ؟ أم لأجل التنسيق في الصورة ؟ و ما هو السياق الذي وردت فيه الصورتان ؟
فلقد وردت الصورتان في سياقين مختلفين: فوردت كلمة ( هامدة ) في السياق الآتي: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة و غير مخلقة، لنبيّن لكم و نقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى، ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدّكم، و منكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا، و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج } سورة الحجّ، الآية 05. و وردت كلمة ( خاشعة ) في سياق آخر مختلف عنه تماما، قال تعــالى: { و من آياته الليل و النهار و الشمس و القمر، لا تسجدوا للشمس و لا للقمر، و اسجدوا لله الذي خلقهن، إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا، فاللذين عند ربّك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون، و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت } سورة فصلت، الآية 39.
و قد بين الأديب سيد قطب بأسلوب ساحر جذاب و بيان عذب بليغ وجه التناسق في ( هامدة ) و ( خاشعة ) فأبان أنّ الجوّ في السياق الأول جوّ بعث و إحياء و إخراج. فمّما يتسق معه لتصوير الأرض بأنها هامدة، ثم تهتز و تربو و تنبت من كل زوج بهيج. و أنّ الجوّ في السياق الثاني هو جو عبادة و خشوع و سجود يتسق معه تصوير الأرض بأنّها خاشعة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت و ربت. ثم لا يزيد على الاهتزاز و الإرباء هنا الإنبات و الإخراج كما زاد هناك لأنه لا محلّ لهما في جوّ العبادة و الخشوع و لم تجىء اهتزت و ربت هنا للغرض الذي جاءنا من أجله هناك و إنّهما هنا تخيلات حركة للأرض بعد خشوعها. و هذه الحركة هي المقصودة هنا. لأنّ كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة. فلم يكن من المناسب أن تبقى وحدها خاشعة ساكنة. كما اهتزت لتشارك العابدين المتحرّكين في المشهد حركتهم، و لكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنا و كل الأجزاء تتحرك من حوله. و هذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير.
أما وحدة الرسم في كل من الصورتين، و أجزاء الصورة، فإنّ وحدة الرسم في الصورة الأولى هي مخلوقات حيّة تخرج من الموت أو مشاهد حياة، و الأجزاء هي نطفة تتدرّج في مراحلها المعروفة و نبتة تصير زوجا بهيجا و هي تراب حيث تخرج من تلك النطفة، و أرض هامدة تخرج منها هذه النبتة. و الجوّ العام هو جوّ الإحياء المرتسم من هذه الأجزاء. أما وحد الرسم في الصورة الثانية فهي مخلوقات طبيعية عابدة أو مشاهد طبيعية، و الأجزاء هي الليل و النهار و الشمس و القمر و الأرض خاشعة لله، تموج فيها و تتصل بها جماعتان من الأحياء مختلفتا النوع متحدتا المظهر، جماعة من الناس تستكبر عن العبادة، و جماعة من الملائكة تعبد بالليل و النهار، و الجوّ العام هو جوّ العبادة المرتسم من هذه الأجزاء. و المثالان السابقان يتجلى فيهما التناسق الفني في رسم الصورة القرآنية باستخدام اللمسات الدقيقة في التصوير على أساس من الوحدة الصغيرة التي سبق بيانها.
و إليك مثال ثالث يتجلى فيه التناسق الفني في رسم الصورة القرآنية باستخدام اللمسات العريضة على أساس من الوحدة الكبيرة. و أصدق مثال المقطع التالي من سورة الغاشية { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت و إلى الجبال كيف نصبت، و إلى الأرض كيف سطحت } سورة الغاشية، الآيات 17-20. لقد جمع هذا المشهد بين السماء و الأرض و الجبال و الجمال، فوحدة الرسم هنا هي الضخامة و ما تلقيه في الحس من أهـوال و استهوال. و أجزاء الصورة هي السماء و الأرض و الجبال، فهذه الأجزاء موزعة في الصورة بألوانها و ظلالها توزيعا متناسقا. جزءان منها في الاتجاه الأفقي للصورة و هما السماء المرفوعة و الأرض المبسوطة. و جزءان في الاتجاه الرأسي للصورة و هما الجبال المنصوبة و الإبل الصاعدة السنام، و الجوّ العام للصورة أنّها لوحة طبيعية، حدودها الآفاق الواسعة من الحياة و الطبيعة، و هذه الأجزاء موزعة في الصورة بألوانها و ظلالها توزيعا متناسقا.
إن في التوزيع المتناسق لأجزاء الصورة بين اتجاهها الأفقي و الرأسي دقة تأخذها عين المصور المبدع في الأشكال و الأحجام. و مما يلاحظ هنا بعين المصوّر كذلك لوحة طبيعية قاعدتها السماء و الأرض لا يبرز فيها من الجماد إلا الجبال و لا يبرز فيها من الأحياء إلا الجمال و ما هو في حجم الجمال و الجمل هو الحيوان المناسب لأنّه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء و الجبال.
هذه بعض الملامح و الخطرات التنظيرية لمعنى التناسق الفني في القرآن الكريم أردنا من خلالها وضع لمسات لأفق جديد من الدراسات الأسلوبية (الصوتية) لكتاب الله العزيز مقارنة بالدراسات القديمة في مجال القراءات القرآنية رسما و أداء. كما نأمل أن يقيض الله لنا العمر حتى نكمل معالمها و نتم أساسها.
رمى سيد قطب بسهمه في دراسة التناسق الفني في القرآن الكريم فبلغ شأوا بعيدا إذ لم شتاته من سابقيه مستفيدا من إمكاناته النقدية التي بسطها في كتابه " النقد الأدبي أصوله و مناهجه ". و قد قسم وجهة نظره إلى المسألة بحسب آفاق أو وحدات سمى كل منها تسمية تليق بدرسه البلاغي و نظرته إلى نسيج النص القرآني أسلوبيا و جماليا. فكانت منهجيته وفق و من وافقه كالمفكر الأديب حسيني علي رضوان وفق الطريقة التالية:
الأفق الأول: التناسق بين التعبير و المضمون.
فعلى درب التناسق الفني يراعي النسق التعبيري و يلائم بين العبارة و الحالة المراد تصويرها في القرآن الكريم مما يساعد على إكمال الصورة الحسية و المعنوية و هذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير و التعبير للتصوير و أمثلتها منثورة في كتابه العزيز انتثار حبيبات العقد، قال تعالى: { إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } الأنفال، الآية 22. فكلمة الدواب متناسقة مع الحالة المراد تصويرها هنا، حالة الكفار فهم لا ينتفعون بالهدى الذي جاءهم لأنهم صم و بكم كحالة الدواب من الحيوانات التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم بالصم و البكم فكلاهما يكمل صورة الغفلة الحيوانية... لذلك ذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى القول: " شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا مما يكفي سماعه و العمل به و شبهوا بالبكم في انقطاع الحجة و العجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوه لذلك انتفى العقل عنهم" . و كمثال آخر في الموضع يمكن أن نسوق قوله تعالى: { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } سورة محمد، الآية 12، فلفظي ( يتمتعون ) و ( يأكلون ) يتناسقان مع الحالة المراد تصويرها حالة الكفار بغفلتهم عن الجزاء و الحساب كدابة الأنعام تتمتع و تأكل و تمرح و هي غافلة عن شفرة القصاب، أو غافلة عما سوى الطعام و الشراب. مثال آخر يمكن إدراجه ضمن السياق نفسه و هو قوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } سورة البقرة، الآية 223. فكلمة حرث متناسقة مع الحالة المصورة حيث شبه النساء بالأرض للتشابه بين صلة الزارع بأرضه في الحرث و صلة الزوج بزوجته في العلاقة الخاصة. و بين النبت الذي تخرجه الأرض، و الولد الذي تنتجه الزوجة. و ما في الحالتين من تكثير و عمران و فلاح. مما دعا الشيخ الطاهر بن عاشور إلى قول: " فتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبة خديجة للنبي صلى الله عليه و سلم – الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل" .
الأفق الثاني: استقلال اللفظ برسم الصورة
إن اللفظ قد يستقل برسم صورة شاخصة، و هذه خطوة و أفق أبعد و أرقى من سابقه على طريق التناسق الفني، لأن اللفظ هو الذي يستقل برسم الصورة (...) و هذا الأفق من آفاق التناسق لم يعرف في غير أسلوب القرآن الكريم إذ لا يستطيع كائن ما كان أن يرسم صورة فنية شاخصة بلفظ واحد.
و اللفظ الذي يستقل برسم الصورة له أوضاع ثلاثة: فهو يرسمها تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن و تارة بظله الذي يلقيه في الخيال و تارة بجرسه و ظله معا. فجرس اللفظ هو إيقاعه الذي يلقيه في الأذن و صوته الذي يتلقاه السمع، و هذا الإيقاع ينتج عن إيقاع كل حرف من حروف اللفظ على حدة ثم عن إيقاع الحروف كلها مجتمعة في هذا اللفظ و ما فيها من مدود و غنات، و شدات، و غير ذلك فالذي يتراءى للسامع أو الرائي الانفصال. لكن في مبدإ التصويت و الإيقاع رسما تتولد الوحدة الصوتية فينسجم المختلف و يأتلف المتنافر في جو من الانسجام و الرجع الموسيقي. و من أمثلة الصورة الموسومة بجرس اللفظ قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض } التوبة، الآية 38.
فكلمة إثاقلتم، استقلت برسم الصورة، صورة شاخصة، واضحة المعالم ظاهرة السمات(...) و هذه الصورة رسمها جرس الكلمة و إيقاعها إذ يتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل. إن كلمة إثاقلتم طنّ من الأثقال، و هذه قراءة قالون و حفص و هما أبلغ تصويرا من قراءات أخرى لذلك جعل ابن عاشور " الثقل على مقتضى القراءة فيه تكلف له، أي إظهار أنه ثقل لا يستطيع النهوض، و عسر الانتقال بسبب فيه تعريض بأن بطأهم ليس من عجز لكنه عن تعلق بالإقامة " ، هذا عن المعنى أما عن الجرس فإن إثاقلتم أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة تاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام و اجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول عند إدغامه، و لما كان التثاقل مبعثه الإخلاد ناسب التشديد الحركة و التباطؤ، فوافق التعبير تخيّل إنسان كان في حالة التردد و العطالة. و عديل ذلك أيضا قوله تعالى: { و إن منكم لمن ليوبطئن } سورة النساء، الآية 72، حيث رسم جرس ( ليبطئن ) صورة واضحة المعالم للتبطئة، و لذلك فاللفظة مختارة هنا بما فيها من ثقل و تعثر، و إن اللسان ليتعثر في حروفها و جرسها حتى يأتي على آخرها وهو يشدها شدا و إنها لتصور الحالة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر و التثاقل في جرسها. و مثيله قوله تعالى: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و أتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون } سور هود، الآية 28. إن جرس كلمة ( أنلزمكموها ) رسم صورة شاخصة لأن الكلمة تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، و شدّ بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون و يشدون إليه و هو نافرون، و دخول الاستفهـام على المضـارع هنا " معناه إنكار أصل الإلزام" ، و لما كانوا منكرين فناسب جرس العبارة رسم حالتهم بالحروف. فاللفظ محمل يقيم العسر. فأنت لا تكاد تخرج من عسر حتى تدخل في آخر. و من عسر إلى عسر، حيث تتمنى عدم النطق بها أصلا.
و من الأمثلة التي يستقل المفرد برسمها بظلها الذي يلقيه في الخيـال، قوله تعـالى: { و اتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } سورة الأعراف، الآية 173. فكلمة انسلخ ترسم صورة عنيفة قاسية التخلص من آيات الله بظلها الذي تلقيه في خيال القارئ فالانسلاخ حركة حسية قوية و تعني الملابسة والانفكاك بقوة. و نحن إذ نرى هذا الكافر ينسلخ من لآيات الله انسلاخا، فينسلخ كأنما الآيات إيهاب أو أديم انسلخ الحي من ذاته و أديمه اللاصق بكيانه. " و الانسلاخ هنا مستعار لأنه انفصال معنوي يعني ترك التلبس بالشيء " . و لا يقف الانسلاخ عند ذلك الحد فقد ناسبته النتيجة إذا أضحى المنسلخ كالكلب يلهث إن في حالة الرخاء أو الشدة للدلالة على الحيرة و الضياع. و قد ورد هذا " النبأ المتلو في باب الالتفات لتعدد صور المشهد الواحد " و قد أورده صاحب الفوائد في باب التشبيه، تشبيه شيء بشيء بعد أن تحدث في ما مضى عن تشبيه شيء بشيئين، فالعدول عن النوع الوارد قبله إلى تشبيه شيء بشيء يناسب الواقعة و ذلك لتوافق حالة المتلبس بالكفر / الانسلاخ بلبوس تعدد صور التردد و الحيرة. و من هذا اللون قوله تعالى: { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } سورة القصص، الآية18. فكلمة يترقب رسمت بظلها صورة فنية و هي هيئة الحذر المتلفت و القلق المتوجس، المتوقع للشر في كل لحظة(...) رغم كونه في المدينة ( عنوان الأمن و السلامة و الأمان ). " و رغم ذلك فهو منزعج متحفز للاختفاء و الخروج من المدينة " . و من الأمثلة التي يشترك في رسم الصورة جرس اللفظ و ظله معا: قوله تعالى: { يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا } سورة الطور، الآية 13. ففي هذه الآية اشترك جرس اللفظ ( يدعّون دعّا ) و ظله في تصوير مدلوله، و الدعّ هو الدفع من الظهور بعنف، و هذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يخرج صوتا غير إرادي فيه عين ساكنة هكذا – أع – و هو في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس الدعّ. و مثاله كذلك قول الباري تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } سورة الدخان، الآية 17.
فلفظ اعتلوه يصور مدلوله بجرسه و ظله، فالعتل جرس في الأذن و ظل في الخيال، يؤديان المدلول للحس و الوجدان هذا و جميع ما ذكرناه من الأمثلة عند الحديث عن التخيل الحسي و التجسيم تعتبر أمثلة لهذا النوع من التناسق الفني فالظلال التي تلقيها التعبيرات هناك من هذا القبيل.
الأفق الثالث: التقابل بين صورتين حاضرتين.
التقابل طريقة من طرق التصوير القرآني استخدمها القرآن الكريم لتنسيق صوره التي يرسمها بالألفاظ حيث ينسق بين هذه الصور بفعل المقابلات الدقيقة بينها. و أمثلة ذلك التقابل بين صورتين حاضرتين الصورتان السريعتان البث و الجمع في قوله تعالى: { و من لآياته خلق السماوات و الأرض و ما بث فيهما من دابة و هو على جمعهم إذا يشاء قدير } سورة الشورى، الآية 29. إذ ليس بين بث الدواب في السماوات و الأرض و جمعها إلا كلمة تصدر، و التعبير يقابل بين البث و مشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن الكريم. و من ذلك التقابل بين صورتين – الإماتة و الإحياء – و إحياء الموتى في قوله الباري عـز و جـل: { أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات ألا يسمعون، أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم و أنفسهم أفلا يبصرون } سورة السجدة، الآيتان 26-27. ففي الآيتين صورتان نقلهما القرآن في ومضة عين من القرون الدائرة بعد الحياة و العمران إلى الأرض الحية المنتجة بعد جدب و موت، فالتقابل هنا بين حالتين ( حالتين في الواقع ) لا بين حالة و حالة ، إحياء القرى ثم إماتتها في مقابل موت الأرض ثم إحياؤها، و" قد نيط الاستدلال على اللامشاهد هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة " .
و من ذلك: التقابل في صورة النعيم و العذاب يوم القيامة: فقلما تخلو صورة من صور النعيم الذي يلاقيه المؤمنون في الجنة سواء كان حسيا أو نفسيا من ذلك قوله تعالى: { هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية، تسقى من عين آنية، ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع } و يقابلهم في صورة النعيم { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية، فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة و أكواب موضوعة... } سورة الغاشية آيات من 1 إلى 5. فهنا تقابل بين النعيم و بين العذاب و مثال هذا أكثر في كتاب الله العزيز.
الأفق الرابع: التقابل بين صورة ماضية و صورة حاضرة.
قلنا إن التقابل طريقة من طرق التصوير في القرآن الكريم استخدمت من أجل التنسيق في الصور الفنية و قد بينا في الأفق الثالث التقابل بين صورتين حاضرتين و حالتين واقعتين و في هذا الأفق نوضح التقابل بين صورتين إحداهما حاضرة الآن و الأخرى ماضية في الزمان حيث يعمل الخيال في استحضار هذه الصورة الأخيرة ليقابلها بالصورة المنظورة.
و هذا اللون من التقابل من الصور موجود بوفرة في كتاب الله العزيز من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر: { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } سورة يس، الآية 76.
الصورة الماضية تمثلها النطفة / الخميرة، في حين أن الصورة الحاضرة هي صورة الإنسان الخصم المبين، و قد رسمت الصورتان في هذه الآية في تقابل متناسق، تقابل تخييلي يعمل فيه الخيال لاستحضار النطفة الحقيرة و استحضار المسافة المديدة بين الإنسان و النطفة من جهة و الإنسان الخصيم من جهة ثانية.
و منه قوله تعالى: { و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم و حميم و ظل من يحموم لا بارد و لا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } سورة الواقعة، الآيات 43-48.
فالصورة الحاضرة هنا هي صورة أصحاب الشمال في نار جهنم، في السموم و الحميم و الظل من اليحموم تقابلها الصورة الماضية لأصحاب الشمال عندما كانوا في الدنيا، حيث كانوا فيها مترفين، و ما أشد ألم عذاب المترفين ! و منه قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي و قيل من راق و ظن أنه الفراق و التفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق. فلا صدق و لا صلى. و لكن كذب و تولى. ثم ذهب إلى أهله يتمطى } سورة القيامة، الآيات 25-32. فالصورة الحاضرة هنا هي صورة الكافر المحتضر و قد بلغت روحه تراقيه و التفت ساقه بساقه و أيقن أنه مفارق، مقبل على ربه، هنا يستحضر خياله، صورته الماضية يوم كونه متولي ذهب إلى أهله يتمطى، فلا صدق و لا صلى... و ما أكثر صور التقابل بين صورتين ماضية و حاضرة في القرآن الكريم.
الأفق الخامس: تناسق الإيقاع الموسيقي في الصورة
موسيقا اللفظ و موسيقا الكلمة و موسيقا الحرف كل ذلك متوفر في القرآن الكريم لأنه متكون من جمل و ألفاظ عربية. و اللغة العربية بجملها و ألفاظها و مفرداتها، لغة موسيقية فنية. و تبدو موسيقية اللغة في اختلاف مخارج الحروف و اختلاف صفاتها و اختلاف حركاتها و سكناتها كما تبدو في اختلاف الكلمات من حيث جرسها و نغماتها و في اختلاف العبارات من حيث إيقاعها. و بهذه المكونات مجتمعة يغدو القرآن الكريم إيقاعا موسيقيا جذابا. و هذا الإيقاع يتألف من عدة عناصر.
- من مخارج الحروف و الكلمة الواحدة.
- و من تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة و من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات، و من الفاصلة ذاتها.
و الإيقاع الموسيقي منتشر في القرآن جميعه، فحيثما تلا المؤمن القرآن أحس بالإيقاع الداخلي في سياقه، لكنه يبرز واضحا في السور القصار و الفواصل السريعة، و مواضع التصوير، و التشخيص بصفة عامة. و يتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال، و هذا الإيقاع الموسيقي متناسق متزن في كتابه العزيز. و هذا التناسق و الاتزان ألوان:
اللون الأول:أن يكون إيقاعا ناتجا عن فواصل متساوية في الوزن تقريبا متحدة في حرف التثنية تماما، ذات إيقاع موسيقي متحد، و يكون اختيار الألفاظ تبعا لهذا الإيقاع، حيث إذا حذف لفظ منها اختلفت القافية و تأخر الإيقاع: مثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم { و النجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم و ما غوى، و ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى... } إلى قوله تعالى: {أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } فالايقاع الموسيقى هنا: متوسط الزمن تبعا لتوسط الجملة الموسيقية في الطوال متحد تبعا لتوحد الأسلوب الموسيقي، مسترسل الروي كجو الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي. و اختيرت الألفاظ لتناسب الإيقاع، في قوله تعالى: { أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى }، فلو أنك قلت: { أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة } لاختلت القافية، و لتأثر الإيقاع، و كذلك قوله تعالى: { ألكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى }، لاختل الإيقاع المتغير بكلمة إذا. فكلمة ( الأخرى) ، و كلمة ( إذا ) جاءتا لتؤديا معنى في السياق و لتؤديا تناسبا في الإيقاع في وقت واحد.
اللون الثاني: من ألوان التناسق في الإيقاع الموسيقي أن يعدل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصة مراعاة للإيقاع الموسيقي للآيات: مثال ذلك قول الباري تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لقومه: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم و آباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين و الذي هو يطعمني و يسقين، و إذا مرضت فهو يشفين، و الذي يميتني ثم يحيين، و هو الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } سورة الشعراء، الآيات من 75 إلى 82. ففي هذا المقطع المنغم خطفت ياء المتكلم في: ( يهدين، يسقين، يشفين، يحيين ) محافظة على حرف القافية مع ( تعبدون، الأقدمون، الدين ). و قد لا يتكلم على هذا الفن من لا يستوعب أصوله لذلك ألمح شيخنا محمد الطاهر بن عاشور إلى القراءة مسندا إياها إلى أهلها. لكنه مر سريعا على كل مواضعها من ذلك قوله: تعليقا على أول موضع للخطف من سورة البقرة : { و أوفوا بعهدي أوف لعهدكم و إياي فارهبون } سورة البقرة، الآية 40. حذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية للجمهور من العشرة وصلا و وقفا دون الوصل (...) و اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل الوقف لأن الكلمة فارهبون كتبت في المصحف الإمام دون ياء و قرئت كذلك في سنة القراءة، و وجه ذلك أنها وقعت فاصلة فاعتبروها كالموقوف عليها (...) و لو لم تكن ياء المتكلم هي فاصلة من الآي لما اتفق الجمهور على حذفها" . ثم إننا لا نجده يتجاوز ذلك عند حديثه عن الخطف، في قوله تعالى: { فأخاف أن يقتلون } سورة الشعراء، الآية 14. في توطئة هذا المقطع الذي نحن بصدد تحليله نسقيا / فنيا. إذ يضيف لما ذكرنا عند تعليقه على قوله تعالى: { و إياي فارهبون } " حذفت ياي المتكلم من يقتلون للرعاية على الفاصلة " . و يشفع بحثه في إثبات ما سلف من قوله: " الخطف لأجل التخفيف و رعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها " . فأين هذا من مراعاة السمع و الإيقاع و ألوان التناسق و العدول عن صورة إلى غيرها ؟
اللون الثالث: من ألوان التناسق في الإيقاع الموسيقي أن يبنى على نحو يختل إذا قدمت أو أخرت فيه أو عدلت في النظم أي تعديل. و في هذه الحالة تلحظ الموسيقى الكامنة في النسق القرآني بحاسة خفية فنية و هبة لدنية مباشرة، تلحظ و تتذوق و لكنها تستعصي على الشرح و التبيين. مثال ذلك قوله تعالى: { ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا } سورة مريم، الآية 04. فلو حاولت مثلا أن تغير فقط وضع كلمة (مني ) فتجعلها سابقة لكلمة ( العظم ) قال ربي إن العظم وهن مني لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر و ذلك أنها تتوازن مع إني صدر الفقرة، و هكذا: { قال رب إني وهن العظم مني } فالموسيقا الداخلية موجودة في التعبير القرآني موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات و أدنى الاهتزازات. " فاشتعل الرأس الشيب أبلغ من كثر الشيب الرأس " . و لا يفهم من هذا الأفق أن القرآن يحرص على مراعاة الفاصلة فقط، و إنما يؤدي معنى موضوعيا ملحوظا. فيجمع بين الغرض الديني و بيان الغرض الفني، كما يجمع بين التناسق الفني و التناسق الموضوعي الديني في التعبير. و هذا من عجائب الغرض الفني المعجز في الأداء البياني للقرآن. و ليس عجيبا أن نجد أهل البيان كل يلقي بدلوه لاستجلاء قيم الإبداع في الرسم الدقيق بالكلمات. قال الباقلاني مندهشا " هذا بديع القرآن و هو باب مقرر و باب مصور " حيث إنه لم يكتف بالإحساس بالتقرير إذ تعداه إلى التصوير و بهذه الخاصة إدراك بالخيال عجيب حتى يسبح فيه كل سباحة. و ليس ذلك فحسب بل إننا نحد علما آخر يعجب فيقضي العجب قائلا " لو كانت الفصاحة عائدة إلى مفردات هذه الآية فلا يخلو إما أن يكون ثبوت الفصاحة في كل واحد منها يتوقف على أن يعقبه الآخر أو لا يتوقف " .
الأفق السادس: التناسق في رسم الصورة
الصورة الفنية في القرآن الكريم مرسومة بتناسق فني ساحر حيث توافر لها أدق مظاهر التناسق الفني. و ألوان التناسق في رسم الصورة ثلاثة هي:
الأول: ما يسمى بوحدة الرسم بمعنى أن تكون أجزاء الصورة مؤتلفة مع بعضها من غير تنافر.
الثاني: توزيع أجزاء الصورة بعد تناسبها مع الرقعة بنسب معينة حتى لا يزحم بعضها بعضا و لا تفقد تناسقها في مجموعها.
الثالث: اللون الذي ترسم به، و التدرج في الظلال بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة و الموضوع.
و هذه الألوان الثلاثة للتناسق متوفرة في الصورة الفنيّة التي ترسمها الريشة و الماء و الألوان. كما أنّها متوافرة في توزيع المشاهد المسرحية و السينمائية، و قد توفر هذه الألوان الثلاثة للتناسق في التصوير الفنّي في القرآن حتى تأتي الصورة فيه مرسومة بتناسق و اتساق، يدل على سمو الإعجاز الفنّي فيه. لأنّ وسيلة القرآن في رسم هذه الصورة المتناسقة هي الألفاظ فقط. و من الأمثلة القرآنية على التناسق في رسم الصورة، سورة الفلق، قال تعالى: { قل أعوذ بربّ الفلق، من شرّ ما خلق، و من شرّ غاسق إذا وقب، و من شرّ النفاثات في العقد، و من شرّ حاسد إذا حسد }. إن الجو العام المراد إطلاقه على السورة هو ( جوّ التعويذة ) بما فيه من خفاء و هيمنة و غموض و إبهام، و قد جاء التناسق بين جزئيات السّورة فيما بينها و في توزيعها على الرقعة المرسومة عليها و في ألوانها و ظلالها جاء متناسقا مع جوّ التعويذة العام بما فيه من غموض و إبهام. فجزئيات الصورة جاءت تحقق الغموض و الإبهام في الجوّ العام و تتناسق معه هذه الجزئيات في الألفاظ التالية: ( الفلق ) و هو يعني هنا ( الفجر) لما في الفجر من غموض و إبهام يتناسق مع جو التعويذة. و ( ما ) الموصولة الشاملة ( من شر ما خلق ) و في تنكيرها و شمولها لكل مخلوق يتحقق الغموض و الإبهام المحفوف بغشاوة. و لعلّ من الأوائل الذين التفتوا إلى المعاني الغامضة و التي لا تعني بحال من الأحوال التعميّة على السامع أو المتملي اللمسات البيانية العجيبة التي تفطن إليها جار الله الزمخشري كما سبق و أن قلنا. إنه من البواكير الذين نظروا إلى معنى أن يأخذ القرآن بعضه برقاب بعض، خاصة التناسق الواقع في مستوى اللوحة الفنيّة العامة – Tableau – التي تلقى بل تتظافر في رسم جمالها المحسوسـات ( المسموعات ) مع ما يصحب ذلك من مرئيات، يزيد الجانب التخيلي بداعة في تناسب الظلال مع لمحاته و تناغم كل ذلك مع الرسم بالألفاظ و النبرات، و جمال توزيع الحروف و أخذ بعضها برقاب بعض، مما استفز جار الله و في أكثر من موضع أن يستوحي من التعويذة ما يلي: " التعوّذ من شر الليل لأن انبثاثه فيه أكثر، و التحرّر أصعب و فيه قولهم: ( الليل أخفى الويل ) فإن قلت: ما معنى الاستعاذة من شرّهنّ ؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه:
1- أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السّحر و من إثمهن في ذلك.
2- أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهن و ما يخدعنهم به من باطلهنّ.
3- أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشرّ عن نفثهنّ.
و إن قلت: قوله ( من شر ما خلق ) تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق و النفاثات و الحاسد ؟ قلت: قد خصّ شرّ هؤلاء من كل شرّ لخفاء أمره و أنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأن يغتال به. فإن قلت فلم عرف بعض المستعاذ منه و نكّر بعضه ؟ قلت: عرّفت النفاثات لأنّ كل نفاثة شريرة، نكّر غاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشرّ إنما يكون بعض دون بعض، و كذلك كل حاسد لا يضرّ و رب حسد محمود لقول النبي صلى الله عليه و سلم : لا حسد إلا في اثنتين " . فانظر إلى هذا التفاعل مع المنطوق كيف تجاذبه المفهوم و كيف وقع التفطن إلى المسكوت عنه الخفي بواسطة الجليّ، و الذي عماده الخطرة الصادقة و الفهم المتبحر لللغة و أبعاد فحواها الرمزي و الدلالي.
أما ( من شر غاسق إذا وقب ) و هو الليل إذا عم ظلامه كل شيء، أضحى مرهوبا مخوفا. و ( شر النفاثات في العقد ) و هو النفث في العقد من الساحرات كل رهبة و خفاء،و ظلام، و غالبا لا ينفث إلا في الظلام. حيث الغموض و الإبهام في النفث في العقد و في الليل المظلم و في نفوس الساحرات، و ( شر حاسد إذا حسد )، و الحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس غامض مرهوب. و من أجل التناسق بين جزئيات الصورة، و بين الجوّ العام الذي يطلق حولها، نرى التعبير القرآني يعدل عن لقطة إلى أخرى تحقق هذا التناسق. ففي هذه الصورة فضلت كلمة ( الفلق ) على كلمة ( النور ) لماذا ؟ لأن النور يكشف الغموض المرهوب و لا يتسق مع جوّ الغسق، و النفث في العقد. و لا مع جو الحسد. و الفلق يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية. ثم يتسق الجو العام من الوجهة التصورية و هي مرحلة قبيل سطوع النور تجمع بين النور و الظلمة و لها جوّها الغامض المسحور.
أما أجزاء الصورة التي أمامنا فهي من ناحية الفلق و الغاسق مشهد من مشاهد الطبيعة و من ناحية ( النفاثات في العقد ) و ( حاسد إذا حسد ) مخلوقان آدميان و من ناحية ( الفلـق و الغاسق ) مشهدان متقابلان في الزمان و من ناحية ( النفاثات و الحاسد ) جنسان متقابلان في الإنسان. فهذه الأجزاء الأربعة موزّعة على الرقعة توزيعا متناسقا و متقابلة تقابلا متناسقا. و هي كلمات ذات لون واحد و هو لون الغموض و الإبهام و الرهبة، هذا اللون متناسق مع الجوّ العام جوّ الغموض و الإبهام.
و لنضرب مثالا آخر للتناسق في رسم الصورة: التناسق المعجز في رسم الصورة القرآنية بألوانه الثلاثة:
- وحدة الرسم.
- و توزيع الأجزاء
- و تناسق الألوان و الظلال مع الجو العام.
فلقد عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر و قبل احتفالها بالنبات مرة بأنها هامدة و مرة أخرى بأنها خاشعة، فلم هذا الاختلاف في التعبير ؟ هل هو لمجرّد التنويع ؟ أم لأجل التنسيق في الصورة ؟ و ما هو السياق الذي وردت فيه الصورتان ؟
فلقد وردت الصورتان في سياقين مختلفين: فوردت كلمة ( هامدة ) في السياق الآتي: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة و غير مخلقة، لنبيّن لكم و نقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى، ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدّكم، و منكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا، و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج } سورة الحجّ، الآية 05. و وردت كلمة ( خاشعة ) في سياق آخر مختلف عنه تماما، قال تعــالى: { و من آياته الليل و النهار و الشمس و القمر، لا تسجدوا للشمس و لا للقمر، و اسجدوا لله الذي خلقهن، إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا، فاللذين عند ربّك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون، و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت } سورة فصلت، الآية 39.
و قد بين الأديب سيد قطب بأسلوب ساحر جذاب و بيان عذب بليغ وجه التناسق في ( هامدة ) و ( خاشعة ) فأبان أنّ الجوّ في السياق الأول جوّ بعث و إحياء و إخراج. فمّما يتسق معه لتصوير الأرض بأنها هامدة، ثم تهتز و تربو و تنبت من كل زوج بهيج. و أنّ الجوّ في السياق الثاني هو جو عبادة و خشوع و سجود يتسق معه تصوير الأرض بأنّها خاشعة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت و ربت. ثم لا يزيد على الاهتزاز و الإرباء هنا الإنبات و الإخراج كما زاد هناك لأنه لا محلّ لهما في جوّ العبادة و الخشوع و لم تجىء اهتزت و ربت هنا للغرض الذي جاءنا من أجله هناك و إنّهما هنا تخيلات حركة للأرض بعد خشوعها. و هذه الحركة هي المقصودة هنا. لأنّ كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة. فلم يكن من المناسب أن تبقى وحدها خاشعة ساكنة. كما اهتزت لتشارك العابدين المتحرّكين في المشهد حركتهم، و لكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنا و كل الأجزاء تتحرك من حوله. و هذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير.
أما وحدة الرسم في كل من الصورتين، و أجزاء الصورة، فإنّ وحدة الرسم في الصورة الأولى هي مخلوقات حيّة تخرج من الموت أو مشاهد حياة، و الأجزاء هي نطفة تتدرّج في مراحلها المعروفة و نبتة تصير زوجا بهيجا و هي تراب حيث تخرج من تلك النطفة، و أرض هامدة تخرج منها هذه النبتة. و الجوّ العام هو جوّ الإحياء المرتسم من هذه الأجزاء. أما وحد الرسم في الصورة الثانية فهي مخلوقات طبيعية عابدة أو مشاهد طبيعية، و الأجزاء هي الليل و النهار و الشمس و القمر و الأرض خاشعة لله، تموج فيها و تتصل بها جماعتان من الأحياء مختلفتا النوع متحدتا المظهر، جماعة من الناس تستكبر عن العبادة، و جماعة من الملائكة تعبد بالليل و النهار، و الجوّ العام هو جوّ العبادة المرتسم من هذه الأجزاء. و المثالان السابقان يتجلى فيهما التناسق الفني في رسم الصورة القرآنية باستخدام اللمسات الدقيقة في التصوير على أساس من الوحدة الصغيرة التي سبق بيانها.
و إليك مثال ثالث يتجلى فيه التناسق الفني في رسم الصورة القرآنية باستخدام اللمسات العريضة على أساس من الوحدة الكبيرة. و أصدق مثال المقطع التالي من سورة الغاشية { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت و إلى الجبال كيف نصبت، و إلى الأرض كيف سطحت } سورة الغاشية، الآيات 17-20. لقد جمع هذا المشهد بين السماء و الأرض و الجبال و الجمال، فوحدة الرسم هنا هي الضخامة و ما تلقيه في الحس من أهـوال و استهوال. و أجزاء الصورة هي السماء و الأرض و الجبال، فهذه الأجزاء موزعة في الصورة بألوانها و ظلالها توزيعا متناسقا. جزءان منها في الاتجاه الأفقي للصورة و هما السماء المرفوعة و الأرض المبسوطة. و جزءان في الاتجاه الرأسي للصورة و هما الجبال المنصوبة و الإبل الصاعدة السنام، و الجوّ العام للصورة أنّها لوحة طبيعية، حدودها الآفاق الواسعة من الحياة و الطبيعة، و هذه الأجزاء موزعة في الصورة بألوانها و ظلالها توزيعا متناسقا.
إن في التوزيع المتناسق لأجزاء الصورة بين اتجاهها الأفقي و الرأسي دقة تأخذها عين المصور المبدع في الأشكال و الأحجام. و مما يلاحظ هنا بعين المصوّر كذلك لوحة طبيعية قاعدتها السماء و الأرض لا يبرز فيها من الجماد إلا الجبال و لا يبرز فيها من الأحياء إلا الجمال و ما هو في حجم الجمال و الجمل هو الحيوان المناسب لأنّه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء و الجبال.
هذه بعض الملامح و الخطرات التنظيرية لمعنى التناسق الفني في القرآن الكريم أردنا من خلالها وضع لمسات لأفق جديد من الدراسات الأسلوبية (الصوتية) لكتاب الله العزيز مقارنة بالدراسات القديمة في مجال القراءات القرآنية رسما و أداء. كما نأمل أن يقيض الله لنا العمر حتى نكمل معالمها و نتم أساسها.
مواضيع مماثلة
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 21, 2011 12:37 am من طرف Admin
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
السبت مايو 21, 2011 12:32 am من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 3
الجمعة مايو 20, 2011 10:10 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 2
الجمعة مايو 20, 2011 10:00 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
الجمعة مايو 20, 2011 9:17 pm من طرف Admin
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 9:08 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:50 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:21 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الأول
الجمعة مايو 20, 2011 7:38 pm من طرف Admin