عقيدة البعث في الشّريعة الإسلاميّة ورسائل الإمام النورسي
صفحة 1 من اصل 1
عقيدة البعث في الشّريعة الإسلاميّة ورسائل الإمام النورسي
بقلم د. محمد بوزغيبة ،أستاذ الفقه وعلومه ، ورئيس وحدة بحث فقهاء تونس بجامعة الزيتونة
* تقديـم:
إنّ حياة الإنسان بعد موته، هي الخيط الفاصل بين الإيمان والإلحاد، بين التّفسير الدّيني لحقيقة الإنسان الذي يجعل لحياته ومصيره معنى وغاية وهدفا لقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون:115]، وبين التّفسير المادّي للإنسان الذي لا ينظر إلاّ إلى غذاء جسده، والذي ستنتهي مسرحيّة حياته بالموت والفناء.
فالإنسان متكوّن من مادّة وروح، والرّوح من سَنَنِ الله البديع تجعل للإنسان قيمة إلهيّة بما يبثّ من فضيلة ويزرع من خير وينشر من ضِياء، فتتغيّر بذلك نظرته للحياة ويرى بعين البصيرة ما وراء النتائج العاجلة من سلوك النّاس وتصرّفاتهم.
يقول ابن عطاء السكندري في مواعظه: «لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدّنيا قد ظهرت كسفةُ الفناء عليها». ففي المعتقد الدّيني لا موت إلاّ في هذه الحياة، فمن فارقها انتقل إلى حياة خالدة لا موت فيها.
ولكنّ الفارق كبير والبوْن شاسع بين موت وموت، فموت المؤمن العارف فوز ونجاة، وموت الجاحد الكافر حِرمان وشقاء.
يقول تعالى في سورة الواقعة: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: 89-95].
* دعوة الأديان إلى الإيمان بالبعث:
دعت جميع الأديان السّماوية إلى الإيمان بالبعث والنّشور على لسان رُسُلها وأنبيائها.
° فنوح عليه السّلام قال لقومه: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: 17-18].
° وموسى عليه السّلام قال في دعوته: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55].
° وعيسى عليه السّلام قال وهو في المهد: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33].
وما ورد على سيّدنا موسى وسيّدنا عيسى هو ما قرّرته الدّيانة اليهوديّة في أصلها الأوّل قبل أن يُصيبها التّحريف من وُجود البعث والنّشور والحساب حقيقة، جاء في الكتاب العزيز فحوى التّوراة في مسألة البعث، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى. وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النّجم: 33-38].
ولكن من تتبّع أسفار العهد القديم، يجدها خالية من ذكر اليوم الآخر ونعِيمه وجحيمه. أمّا من تأمّل في الأناجيل سيجد أنّ اليهود حاولوا استدراج المسيح حتّى يوافقهم على إنكار البعث واليوم الآخر، ولكنّهم أخفقوا في محاولتهم بعد أن بيّن لهم المسيح فساد ويُطلان الأدّلة التّي يعتمدونها في هذه القضيّة، وكان ممّا قال لهم: «عجباً لكم! كيف تنكرون قيامة الأموات مع أنّكم تقرؤون في كُتبكم أنّ الله قد قال: "أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والله تعالى إله للأحياء أو لا يصحّ أن يكون إلهاً للأموات"، فلمّا سمعوا منه ذلك بهتوا من حجّته» [إنجيل متّى: إصحاح 22].
وقد أوردت الأناجيل أقوالاً للمسيح في التّبشير بملكوت الله وفي الحساب يوم الدّينونة.
° جاء في إنجيل متّى: «أقول لكم إنّ كلّ كلمة باطلة يتكلّم بها النّاس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدّين» [إصحاح: 12].
° وجاء في إنجيل يوحنّا: «أنا القيامة والحياة، فمن آمن بي فسيحيي وإنْ مات»[إصحاح: 14].
° وجاء في إنجيل مرقس: «وإنْ أعثرتك عينك فأقلعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تُلقى في جهنّم حيث دودها لا يموت والنّار لا تُطفأ»[إصحاح: 8].
والموت عند المسيحيّة هو موت الرّوح والجسد معاً، موت الروح بسلب حياة الرّحمة الإلهيّة التّي بما يصبح الإنسان فوق الكائن الطّبيعي، وموت الجسم بخروجه عن حالته البيولوجيّة.
فليس للموت إذن مفارقة الرّوح للجسد، ولكنّه الفراق بين الإنسان والربّ، بتخلّي العناية الإلهيّة عنه جزاء ما ارتكب من شُرور واقترف من آثام.
فالمسيحيّة تتّفق مع الإسلام في مبدأ الخلود، ولكنّه يختلف عنها في حقيقته، وفي فكرة العدم بالموت بالنسبة إلى الأشرار، فالكافر كما ورد في القرآن الكريم يتمنّى العدم حتّى لا يرى ما يرى من أهوال، يوم ﴿يَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [ النبأ: 40]. ولو كان في حالة عدم حقيقيّة لما جاز عقلاً أن يتمنّى ذلك. وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ [ الفرقان: 27]. فهذا الوعي لا يُتصوّر عندما يكون الإنسان في حالة عدم أو فساد بالموت، وكيف يحسّ المعدوم بمصيره المؤلم وهو في حالة فناء؟
ويبدو أنّ محمّد إقبال تأثّر بمثل هذه الآراء التّي انحدرت من المسيحيّة، قال: «... وليست هناك أعمال تورث اللّذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنّفس البقاء، أو تكتب لها الفناء، فالعمل هو الذي يعدّ النّفس للفناء أو يكفيها لحياة مستقبلة، ومبدأ العمل الذي يكتب للنّفس البقاء هو احترامي للنّفس فيّ وفي غيري من النّاس... إلى أن قال: وعلى هذا فالخلود لا نناله بوصفه حقّاً لنا، وإنّما نبلغه بما نبذل من جُهدٍ شخصيٍّ، والإنسان مرشّح له لا غير» ([1]).
ولكن الذي قرّره القرآن أنّ الخلود أمر حتميّ للإنسان، إمّا في النّعيم وإمّا في الجحيم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا...﴾ [هود: 106-108].
ويقول إقبال: «على أنّه لا مفرّ للنّفس من أن تكافح كِفاحاً موصولاً حتّى توفّق إلى التّماسك وإلى الفوز بالبعث. فالبعث إذن ليس حادثاً يأتينا من خارج، بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النّفس» ([2]).
ولعلّ فكرة الخلود التّي يؤمن بها إقبال إنّما تتمثّل في اتّصال الحياة واستمرار الإنسان فيها ليتلقّى على الدّوام نوراً جديداً من ربّه، أمّا أبديّة الجحيم في الآخرة فينفيها إقبال، ويعتبرها حقبة من الزّمن لتقويم النّفس وتزكيتها، لذلك لا يصحّ أن يُطلق عليها وصف الخلود.
قال محمد إقبال: «وعلى هذا فالنّار كما يصوّرها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلّطه إله منتقم، بل هي تجربة للتّقويم، قد تجعل النّفس القاسية المتحجّرة تحسّ مرّة أخرى بنفحات حيّة من رِضوان الله، وليست الجنّة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة متّصلة، والإنسان يسير دائماً قدماً يتلقّى على الدّوام نوراً جديداً من الحقّ غير المتناهي» ([3]).
وهذا الرأي فيما يبدو مخالف لما نعلمه في القرآن من أنّ دار الابتلاء والاختبار والتجربة إنّما هي الدّنيا، أمّا الآخرة فهي دار جزاء فقط، فكيف تكون التجربة للتّقويم ؟
* إنكار عرب الجزيرة البعث:
لقد وصف القرآن الكريم نكران عرب الجزيرة عقيدة البعث والنشور عندما قال تعالى على لسان معطّلة العرب مثلما سمّاهم الشّهرستاني في كتابه "الملل والنِّحل": ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24].
ونقل الشّهرستاني ما قاله شداد بن الأسود اللّيثي عند رثائه مُشركي قُريش يوم بدر:
يخبرنا الرّسول بأن سنحيا ** فكيف حياة أصداء وهام ([4]).
ولقد وردت أقوال فيها سخريّة من البعث منها:
- «أُناس يقضون عيش النّعيم ونحن نُحال إلى الآخرة ... فإنْ لم يكن مثلما يزعمون فتلك إذا كرّة خاسرة»
- خُذْ ما تراه ودعْ شيئاً سمعت به.
- لا نبيع ذرّة منقودة بدرّة موعودة.
- حياة ثمّ موت ثم بعث ** حديث خزانة يا أمّ عمرو
ولقد بيّنت السّيرة النبويّة ذهنيّة العرب الوثنيّة في أثر أخرجه الحاكم النيسابوري عن ابن عبّاس، قال: «جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم حائل ففتّته وقال في سخرية: يا محمّد ! أَيُبعث هذا بعد ما أَرِمَ؟ قال نعم! يبعث الله هذا ثمّ يميتك ثمّ يحييك ثمّ يدخلك نار جهنّم»، فنزلت الآيات: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [ يس: 77-79].
لقد اقتضت الحِكمة الأزليّة أن يبتلى الإنسان بزينة الحياة الدُّنيا وبالهوى، فكان بذلك عرضة للفسوق والعصيان، والغفلة والنّسيان والإعراض عن الحقّ، فأرسل الله إليه رسله وأنزل كتبه، وبيّن له مواقع رِضاه وغضبه، وأنّ النّعيم لا يدرك بالنّعيم، وأنّ أعظم اللّذات محجوب بأنواع المكاره، فلم تقوَ عُقول الكثيرين على إيثار الآجل المنتظر بعد فناء الدُّنيا، على هذا العاجل الملموس، بل إنّ خيالهم لم يتّسع لتصوّر نشر جديد لعد ظلمة القبر وفناء الجسد، وأنّا سنموت كما سننام ونُبعث كما سنستيقظ، ولاسيما العرب الذين لم يكلّفوا قطّ بشريعة، لوجودهم في فترة من الرُّسل بين جدّهم إسماعيل ومحمّد عليهما السّلام ([5]).
وبتعاقب الدّهور وتأثير الوراثة، تأصّلت في العرب عقيدة الشِّرك والوثنيّة، حتّى صار من العجب أن يُقال لهم: الله واحد، بدليل قوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ ص: 5 ].
* البعث في القرآن والسُنّة:
لقد استعمل القرآن الكريم في ردّه على مفكّري البعث على اختلاف اتُجاهاتهم، مختلف البراهين لإقناعهم بأنّ الساعة حقّ وأنّ الله يبعث من في القُبور. وتقوم عقيدة البعث على أصول لا بدّ من اعتبارها في عقيدتنا، وهي:
- غاية الوجود:
يوجّه القرآن الكريم الأنظار إلى أنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق هذا الكون باطلاً ولغير هدف، يقول جلّ ذكره: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الدّخان: 38-39].
وبيّن سُبحانه أنّه لم يخلق الإنسان عبثاً، قال عزّ جلّ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [ المؤمنون: 115 ].
وقال أيضاً: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [ القيامة: 36 ]. وقال جلّ شأنه: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾ [ النّجم: 39-41 ].
تُبيّن العقيدة الإسلاميّة أنّ الإنسان له حريّة عميقة في كيانه، لكنّها ليست حرّية الفوضى الخلقيّة التّي تنتهي دائماً بتهديم الإنسان وتمزيق علائقه مع الوجود الخارجي من حوله.
فالحقّ الذي خلق الله تعالى به الكون، يتنافى مع الفلسفة الوجوديّة المُلحدة، فليس ثمّة عبث كما يرى "ألبير كامو"، وليس ثمّة لا معقوليّة للحياة والوجود كما يرى "كافكا"، وليس ثمّة حرّية لا أخلاقيّة مُطلقة من كلّ قيد كما يرى "سارتر"، وليس ثمّة تناقضات نفسيّة لا نهاية لها، تنتهي دائماً بالضياع كما يرى "دستوفسكي"، ذلك أنّ الإسلام يستمدّ تجاربه الباطنيّة من خِلال الحقيقة لا الزّيف، ومن الاستقامة لا الانحراف، ومن المعرفة لا الضياع ([6]).
وإنّ ارتباط الوجود الإنساني بمصيره هو النّقطة التّي تفترق فيها الطُّرق بين النّاس، لا في نظرتهم إلى الحياة وفلسفتهم فيها فحسب، بل في أخلاقهم ونمط سلوكهم ومدى إيمانهم.
فالإيمان بمصير الإنسان بعد الموت يجعل لحياته غاية سامية وهدفاً أعلى، والقرآن الكريم حافل بآيات تُقيم الأدّلة على أنّ الكون ليس مُهملاً كما يزعم الملاحدة، بل خلق الخلق بالحقّ، ليكون الابتلاء والاختبار الذي سيعقبه بعث للحساب والجزاء، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [ المُلك: 2 ].
فالإيمان بالله تعالى يُحقّق المعرفة بالمصدر الأوّل، والإيمان بالبعث يُحقّق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه هذا الوجود، وعلى ضوء المعرفة بالمصدر والمصير يمكن للإنسان أنم يُحدّد هدفه ويرسم غايته، ويتّخذ من الوسائل والذّرائع ما يُوصله إلى الهدف ويبلغ به الغاية.
ومتى فقد الإنسان هذه المعرفة، فإنّ حياته سوف تبقى بلا هدف ولا غاية، وحينئذٍ يفقد الإنسان سموّه الرّوحي، ويعيش كما تعيش الأنعام، وهذا هو الانحطاط الرّوحي المدمّر لشخصيّة الإنسان والمنافي للحِكمة الإلهيّة العُليا من هذا الوُجود.
- نهاية العالم:
تُؤكّد عقيدة البعث على فناء هذه الدّنيا وانتفاء أزليّة هذا الكون، ويؤكّد علماء الفلك حتميّة اختلال الأجرام السماويّة ([7]). ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [ الانفطار: 1-5 ].
جاء في كتاب "المعاد" قوله: «إنّ قانون الدّيناميكيّة الحراريّة يثبت أنّ الحرارة ليست دائمة إلى الأبد، وأنّ يوم انتهائها سيأتي حتماً، والكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها مَعِين الطّاقة، ويومئذٍ لن تكون هناك عمليات كيميائيّة أو طبيعيّة وذلك بحكم الانتقال الحراريّ المستمرّ من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوّة ذاتيّة، بحيث تعود الحرارة وترتدّ من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارّة، وعندئذٍ تقف حركة الحياة ويموت الأحياء» ([8]).
إنّ السّاعة آتية لا ريب ذلك ولا مفرّ منها، ستأتي حينما تبلغ الأرض زينتها وزُخرفها، ويظنّ الإنسان أنّه قادر على كلّ شيء، بما يملك من زمام الأمور وبما بلغه من علوم، ولا تأتي السّاعة إلاّ بعد فناء الكون.
* سكرات المـوت:
ليس الموت خِتاماً لمعنى الحياة وابتداء لحالة أخرى لا شعور فيها ولا إحساس معها، إنّما هو مرحلة تحوّل من طوْر إلى آخر، يقول الأديب المصري عبّاس محمود العقّاد:
أراني على الحاليْـن روحــــــــاً وبُنيـة ... أحسّ بأنّ الموت ليـس بمُفقـدي
فإنْ كنت ذا جِسم ذوى قبل مصرعي ... وإنْ كنت ذا روح فروحي مخلّدي ([9]).
إنّ الموتَ هو الفجيعة الكُبرى للجاحدين الذين سيعرفون بعد الموت كلّ شيء وسيُدركون أنّهم كانوا في ضلال بعيد، سيتمّ ذلك بعد فوات الأوان، يقول تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون. وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [ الجاثية: 33-34 ].
تثبت العقيدة الإسلاميّة أنّ ما يقع للجسد من فساد لأجهزته وفنائه لا يؤثّر في حقيقة الرّوح ولا في كيان الإنسان المعنويّ، يقول السّهروردي وهو يصف حال الميّت:
قُل لأصحـاب رأوْني ميّتـاً ** فبكوني إذ رأوني حزنـا
لا تظنّوني بأنّـي ميّـــت ** ليس هذا الميّت والله أنـا
أنا عصفور وهـذا قفصـي ** طرت عنه فتخلّى رهنـا
فاخلعوا الأنفس عن أجسادها ** فتروْن الحقّ حقّاً بيّنــا
لا تُرعكم سكرة الموت فمـا ** هي إلاّ بانتقال من هُنـا
ولقد عبّر القرآن الكريم عن لحظة الفزع ولحظة خروج الرُّوح من الجسد بسكرة الموت، قال جلّ وعلا: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ ق: 19 ]. وقال صلى الله عليه وسلّم يوم مفارقته الدُّنيا وهو يمسح وجهه بالماء: «لا إله إلاّ الله إنّ للموت سكرات». لقد عاش الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لحظات النَّزع، فكيف حال العُصاة والملاحدة عند النّزع، لقد وصف القرآن الكريم هذا المشهد بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [ الأنعام: 93 ].
وإنّ أوّل منازل الآخرة هو القبر، فهو يضيق ويتّسع ويُظلم ويُنوّر بحسب مكانة صاحبه عند ربّه، والأدّلة على ذلك كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري أنّه لمّا مات أبو سلَمة دخل عليه الرّسول صلى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «اللّهم اغفر لأبي سلمة وافسح له في قبره ونوّر له فيه». أمّا الدّليل على سؤال الميّت في القبر ما أخرجه مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا فرغ من دفن ميّت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنّه الآن يُسأل». وما أخرجه البخاري عن حديث البراء بن عازب أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الآية ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إبراهيم: 27 ] نزلت في عذاب القبر».
فالقبر فيه فتنة ووِشحة وابتلاء وسؤال الملكين، والدّليل على وجود عذاب القبر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، قال صلى الله عليه وسلّم: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، وإنْ كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة، وإنْ كان من أهل النّار فمن أهل النّار، فيُقال هذا مقعدك حتّى يبعثك الله يوم القيامة». وممّا يؤكّد هذا الحديث قوله تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46 ].
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: «هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدُّنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة، ويوم تقوم القيامة...»([10]).
فإنّ وقت الموت أو المرحلة بين الدّنيا والبعث هي حياة البرزخ التّي قال فيها تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100 ].
يقول القشيري: «من مات فقد دخل البرزخ، وما بين الموت والبعث فإمّا راحة متّصلة وإمّا آلام وآفات غير منفصلة» ([11]).
وإنّ الأرواح متفاوتة في مستقرّها في البرزخ حسب شقاوة صاحبها وسعادته إلى أن يأتي اليوم الآخر، هذا اليوم العظيم الذين اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً بالغاً، فتناول حقيقة اليوم الآخر وما يكون فيه من بعث وحِساب وجزاء، ثمّ ما يتبعه من حوض وصراط وشفاعة، واعتبره ركناً من أركان الشّريعة الإسلاميّة.
ويتجلّى هذا الاهتمام بكثرة ذكر القرآن الكريم لليوم الآخر، فلا تكاد تخلو سورة من الحديث عنه ولو في إشارة أو تلميح مع تقريبه إلى الأذهان، تارة بضرب الأمثال، وتارة بالحجّة والبرهان، وكثيراً ما نجد القرآن الكريم يتحدّث عن الدّنيا كأنّها ماضٍ كان، وعن الآخرة كأنّها الحاضر الآن منا قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[ الزُّمر: 71 ].
* الأدّلة الشرعيّة المثبتة للبعث:
إنّ الموت في واقعه ليس انعداماً لأجزاء الإنسان، بل تفريقاً لها، وعندما تتعلّق إرادة الله بعودة الأجسام، يجمع هذه الأجزاء المشتّتة ويؤلّفها على حالتها السابقة جسماً وروحاً، وذلك هو المعاد، وما وقع لإبراهيم الخليل عليه السّلام لمّا سأل ربّه بقوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ ؟ وجواب الله تعالى له خير دليل على إعادة الخلق من جديد، قال تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ بمعنى أن يقطعها إبراهيم عليه السّلام إلى أجزاء صغيرة يختلط بعضها ببعض خلطاً غير قابل للتجزئة والتّمييز ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [ البقرة: 260 ].
قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: «يميّز الله تعالى أجزاء كلّ طير عن صاحبه ويجمع أجزاء كلّ واحد منها مستقلاًّ عن الباقي، فإذا اكتملت لكلّ طائر هيئته الخاصّة به أوْدع فيه الحياة حتّى يطمئن إبراهيم إلى هذه الحقيقة، ويتحقّق علمه، وينتقل من معالجة الفكر والنّظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة، وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشّبه عن العقل»([12]).
وهذا المثل القرآني الدّقيق صريح الدّلالة على أنّ الموت تفريق للأجزاء، وليس انعداماً لها كما يظنّ المفكّرون الذين استعظموا عودة الحياة الإنسانيّة بعد انقطاع الحواس وانفصال الشّعور عن الجسد.
والنّصوص القرآنيّة التّي تُؤكّد إعادة الخلق والبعث والنّشور كثيرة ووفيرة منها قوله تعالى:
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [ البقرة: 28 ].
﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا. قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا. َوْخَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [ الإسراء: 49-51 ].
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [ الرّوم: 27 ].
﴿وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا. أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا﴾ [ مريم: 66-67 ].
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [ الحجّ: 6-7 ].
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾ [ الواقعة: 60-62 ].
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [ فصلت: 39 ]. هذا نوع من قياس الدّلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلّة وملزومها مثلما قال علماء أصول الفقه. فدلّ سبحانه في هذه الآية عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحقّقوه وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء واعتبار الشيء بنظيره، والعِلّة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلّة.
والقرآن الكريم إذْ يدعم عقيدة البعث بمختلف الوسائل والطُّرق، فليس ذلك فقط على قرارٍ ألزم الله به نفسه، وإنّما على أحد مستلزمات العدل الإلهي والحكمة السّامية، حتّى لا تكون حياة الإنسان بلا غاية ولا هدف، إنّ حاجة الإنسانيّة ملحّة إلى الآخرة لضمان الخلود وإقامة العدل وتنظيم الحياة ([13]).
وهكذا، فإنّ الإيمان بالبعث كالإيمان بالله كلاهما لا يقبل شكّاً ولا تردّداً، لأنّ الفِطرة السليمة تنساق إلى هذا الإيمان.
فالإيمان بالله يعترف بالمصدر الأوّل للوجود، والإيمان بالبعث يعترف بمصير الإنسان فيه، ومن حُرم هذه المعرفة أضحت حياته كحياة الأنعام تقوده الأهواء وتُسيّره الغرائز. والله تعالى لم يخلق الإنسان بيديه، ولم ينفخ فيه من روحه ولم يأمر ملائكته بالسّجود إليه، ولم يحمّله الأمانة ولم يجعل له الخلافة، ولم يسخّر له ما في السّموات والأرض إلاّ لِيجعل من وجوده غاية سامية تتّفق مع حِكمته العُليا وعدله المُطلق، حتّى لا تذهب جهود هذا الإنسان سدى مِصداقاً لقوله جلّ ثناؤه:﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [ الجاثية: 22 ].
* الإمام النّورسي ورسائل البعث:
عاش الإمام بديع الزّمان النورسي في زمن الحروب والفِتن، وآل على نفسه دعوة المسلمين إلى التمسّك بدينهم، واقتناعاً منه بأنّ الدّعوة المحمّدية لم ترَ النّور إلاّ بعد أن غرست أركان العقيدة في نفوس المسلمين الأوّلين، أهتمّ النّورسي بالعقيدة في رسائله وتناول البعث والنّشور بالدّرس ليقوّي إيمان أتباعه ويذكّرهم بعاقبة أمرهم ليصمدوا ويصبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرّقوا.
فالرّجل قد لاقى الويْلات وذاق معاناة السّفر والحرب والأسر، ومنذ سنة 1918 وبعد عودته من الأسر قام باستراحة قصيرة راجع فيها نفسه وكأنّنا به يستشعر مآل الأوضاع نتيجة لالتصاقه الطويل بواقعه السّياسي والاجتماعي، لذلك نجده بسبب هذا الاستشعار المتولّد عن الواقع المتأزّم، يعيش مرحلة يأس ابتداء بنجاته من مآسي الحرب والحفاوة التّي قُوبل بها وسًكناه في أرقى أماكن استانبول. يقول بديع الزّمان النورسي عن هذه المرحلة: «كانت وسائل النّشر مفتوحة أمامي في دار الحِكمة الإسلاميّة... وبينما كنت أحسّ بأنّي أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى مرآة ورأيت شعرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحيّة تبدأ بالظّهور، فأخذت أنعم النّظر وأفكّر مدقّقاً في تلك الحالات التّي كنت ارتبط بها قلبيّاً... » وبعد فترة من التأمّل توصّل النّورسي إلى قرارٍ حاسمٍ تمثّل في قوله: «إنّه ليس لدائي دواء إلاّ عند الباقي السّرمدي عند القدير الأزلي فبدأت أبحث وأستقصي» ([14]).
وبحثه واستقصاؤه سيقوده إلى ما بعد النهاية (الدّنيويّة) إلى ملاقاة عليم قدير، إلى خلود ونعيم وملاقاة ربّ كريم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ النّورسي القديم الذي شغلته السياسة ومشاكل الدّولة العثمانيّة عن التأمّل في القرآن الكريم الذي كان قد حفِظه منذ نعومة أظافره، فإنّ مرحلة التأمّل هذه جلته يهتمّ بالقرآن العزيز ويدعو إلى النّهل من معينه المباشر دون وسائط ([15]). ويعمل على إخضاع كلّ معارفه لخدمة القرآن، فهو القائل: «القرآن هو أسمى مُرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق، ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه» ([16]). وهو القائل أيضاً: «... القرآن هو مفتاح لحقائق الشؤون... المضمرة في سطور الحادثات... وكذا هو خريطة العالم الأخروي... وهو المربّي للعالم الإنساني...» ([17]). فقوله: «هو خريطة للعالم الأخروي» دفعه إلى التأمّل في الآيات البيّنات التّي اعتنت بالبعث والنّشور وخصوصاً في الفترة المكّية.
هذا في المجال القرآني، أمّا في مجال علم الكلام والعقيدة، فإنّ النّورسي قد تشبّع بهذا العلم الذي يعتبر الآخرة وتوابعها من أركانه الأساسيّة ([18]).
إنّ تأثّر بديع الزّمان بالفكر الصوفي منذ طفولته بحكم نشأته في البيئة الأناضوليّة العثمانيّة العريقة في تصوّفها دفعه إلى التأمّل في ما وراء هذا الكون وهذا العالم الدّنيوي الفاني، فالنّورسي متأثّر بالتصوّف السُنّي وبأقطابه مثل عبدالقادر الجيلاني وحجّة الإسلام الغزالي وجلال الدّين الرّومي والإمام الربّاني، ويكفي أن نلاحظ اسمين من أسماء كتبه وهما : "المثنوي العربي النّوري" و"مكتوبات"، وهما على نفس تسمية "مثنوي جلال الدّين الرّومي" و"مكتوبات الإمام الربّاني" ([19]). لتُثبت غوص الإمام النّورسي في الفكر الصوفي واهتمامه بالموت وسكراته والقبر وويِلاته والحِساب وامتحاناته.
كما ضمّن بديع الزّمان بعض كلماته بيان الأسس العلميّة للاستدلال على مسائل الآخرة، وفق المسلك القرآني في التّأسيس للاعتقاد، فتناول حقائقها البيّنة، مشفوعة بأدّلتها القطعيّة، فكانت حُججاً ناهضة محقّقة للمرغوب لكلّ من ألقى السّمع وهو شهيد إذ تنمّي في المستدلّ من خلال شواهدها، الأبعاد الوظيفيّة المنتظرة من التّصديق بالآخرة وقِيام السّاعة.
ولعلّ أوّل علاماتها صباغ الفعل البشري لمعتقديها بصبغة إنسانيّة تجعل خدمة الإنسانيّة غاية جزئيّة دائمة ترتبط بها مرضاة الله وجوداً وعدماً. فكلّما استحضر المؤمن قِيام السّاعة، وخاصّة أثناء ممارسة الأداء اليوميّ كان أكثر خدمة لنفسه ووطنه والإنسانيّة وأكثر تحرّراً من نزواته وحيوانيّته الضارية، فكان التّصديق بالآخرة عاملاً مهمّاً في إخراج الدّنيا من العبثيّة إلى الهدفيّة الظّاهرة التّي تجعل من الاستكثار من الخير في الدّنيا لله سبباً في الفلاح في الآخرة ووسيلة للنّجاة من النّار وسمومها ([20]).
كما أدرج النّورسي في "الكلمات" مجموع نكات تدور حولها سعادة الإنسان وشقاوته، وخصّ النكتة الثانية لبيان جهتيْ التّكوين البشري، وتتخلّص أولاهما في الأنانيّة المقصورة على الحياة الدّنيا، والثانية "العبوديّة" الممتدّة إلى الحياة الأبديّة، فإذا ربّى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام، وغذّاها بضِياء الإيمان تحت تراب العبوديّة، موجّهاً أجهزتها المعنويّة نحو غاياتها الحقيقيّة، بامتثال الأوامر القرآنيّة، فلا بدّ أنّها ستتفتّح أزاهيرها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة، وفي الجنّة نِعَماً جامعة لدقيقة دائمة ويغدو الإنسان آلة نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرة مباركة منوّرة لشجرة الكون. والسموّ الحقيقي إنّما بتوجّه القلب والسّر والرّوح والعقل وسائر القوى الممنوحة للإنسان إلى الحياة الأبديّة الباقية، واشتغال كلّمنها بما يخصّها من وظائف العبوديّة ([21]).
ففي الكلمات والشعاعات وغيرها من الرسائل المبدعات، تناول الشيخ الإمام بديع الزّمان النّورسي الآخرة وما تبِعها، وفي رسائله كاّفة، حاول النّورسي تجلية الأمر في الفرق بين مسلك أهل الضلال من جهة، ومسلك أهل الإيمان من جهة أخرى، فالأوّل يمثّل طُرق الشّقاوة، والثاني يمثّل طريق السعادة والرقيّ والحضارة، والنجاح في الدّنيا والفلاح في الآخرة.
رسائل نورانيّة إيمانيّة ألّفها مُصلح جاهد بنفسه وقلمه ولِسانه لرفع كلمة الله العُليا، فنال مرضاة ربّه وفردوس جِنانه.
دعـوة ملحّـة:
والآن ورغم وُجود رسائل النّور والأصليّة المترجمة لعدّة لُغات، ورغم الكُتب والنّدوات العلميّة التّي عُقدت خارج تُركيا حول شخصيّة بديع الزّمان النّورسي، مثل كتاب "رجل القدر في حياة أمّة" ([22]). وإسهامات الباحث التّركي نجم الدّين شاهينر([23]). وجهود إحسان قاسم الصالحي في تعريب آثار الرّجل، ورغم اهتمام المستشرقة الإنجليزية ماري ويلد بالبحث حول النّورسي وفكره وصاحب كتاب "بديع الزّمان مؤلّف رسائل النّور".
ورغم النّدوات التّي عُقدت بالمملكة المغربيّة للتّعريف بالإمام النّورسي، وكانت سنة 1999 تحت عنوان: «تجديد الفكر الإسلامي في القرن 14هـ: جهود بديع الزّمان».
والثانية في سنة 2000 تحت عنوان: «حوار الشّرق والغرب في رسائل النّور»، ورغم بعض الكتب التّي تقدّم بها بعض الباحثين الجزائريّين مثل الأستاذ عمار جيدل في كتاب "بديع الزّمان النّورسي وإثبات الحقائق الإيمانيّة (المنهج والتّطبيق) ([24]).
والأستاذ سليمان عشراني في كتابه "بديع الزّمان النّورسي سيمياء الشّكل والصميم" ([25]). فإنّ النّورسي معروف في الغرب لاهتمام المستشرقين بشخصيّته ورسائله مبكّراً، وهو معروف أيضاً في منطقة الشّرق العربي منذ أن سمحت له السلطات التركيّة بأداء مناسك الحجّ سنة 1947م، وتعمّقت هذه المعرفة أكثر بعد تعريب الدّكتور إحسان قاسم الصالحي الأعمال الكاملة للنّورسي ونشرها في بلاد المشرق.
أمّا في منطقة المغرب العربي، فإنّ السّيرة الذّاتية لبديع الزّمان لم تنتشر بالشكل المطلوب، فمثلاً لم يخصّص له الأستاذ محمد بوذينة في كتابه "مشاهير القرن العشرين" إلاّ صفحة واحدة ([26]). ولم تتناوله جامعة الزّيتونة إلاّ في رسالة جامعيّة نال بها صاحبها شهادة الدّراسات المعمّقة، وعنوان الرسالة "بديع الزّمان النّورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كلّيات رسائل النّور"([27]).
فالمراكز التركيّة المهتمّة بهذه الشخصيّة مدعوّة لتوسيع نشاطها ومزيد التّعريف بالإمام العلامة بديع الزّمان النّورسي وبآثاره طيّب الله ثراه.
المراجع
1. الآلوسي، محمد شكري: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ط. مصر، 1958م.
2. آل ياسين، محمد حسين: المعاد، ط. بيروت، 1972م.
3. أورخان، محمد علي: رجل القدر في حياة أمّة، ط.1، 1416هـ، النّسل للطباعة، استانبول.
4. إقبال، محمد تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، تعريب عبّاس محمود العقّاد، ط. القاهرة، 1955.
5. بوذينة، محمد" مشاهير القرن، العشرين، منشورات بوذينة للنّشر، تونس.
6. جيدل، عمّار: بديع الزّمان النّورسي وإثبات الحقائق الإيمانيّة (المنهج والتّطبيق)، ط, شركة النّسل، استانبول، 2001.
7. الحجري، حمّادي: بديع الزّمان سعيد النّورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كلّيات رسائل النّور، رسالة جامعيّة مرقونة بجامعة الزّيتونة، 1999-2000.
8. خان، وحيد الدّين: الإنسان يتحدّى، تعريب ظفر الإسلام خان، ط. بيروت، 1973م.
9. خليل، عماد الدّين في النّقد الإسلامي المعاصر، ط. بيروت، 1972م.
10. الشهرستاني: الملل والنحل.
11. ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر.
12. عبدالحميد، محسن: النّورسي متكلّم العصر الحديث، ط. القاهرة، [د.ت].
13. العقّاد، عبّاس محمود: بعد الأعاصير، ط. مصر، 1950م.
14. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ط. القاهرة، 1967م.
15. القشيري، عبدالكريم: لطائف الإشارات، تح إبراهيم بسيوني، ط. القاهرة، مصر.
16. متّى: إنجيل متّى
17. مرقس: إنجيل مرقس.
18. نقرة، التهامي: عقيدة البعث في الإسلام، دار القلم، تونس.
19. النّورسي: رسائل النّور: اللّمعات، تعريب إحسان قاسم الصالحي، ط.1، 1413هـ، ط. النّسل للطباعة والنشر، سوزلر، استانبول.
20. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: إشارات الإعجاز في مظانّ الإعجاز، مطبعة النّور، أنقرة، 1959م.
21. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: ج2، المكتوبات، ط.1، شركة النّسل للطباعة، تح إحسان قاسم الصالحي، استانبول، 1992م.
22. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: كلّيات رسائل النّور، ج 6، المثنوي العربي النّوري، تح إحسان قاسم الصالحي، ط.1، مصر، نشر وتوزيع دار سوزلر للنشر، فرع القاهرة، 1995م.
23. ياوز، يوسف شوقي: رسائل النّور من زاوية المشكلات الكلاميّة، أعمال المؤتمر العالمي لبديع الزّمان النّورسي: تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين رقم3، استانبول، 24-26، سبتمبر 1995، ترجمة أورخان البياتي وآخرون، ط. 1996.
24. يوحنّا: إنجيل يوحنّا.
* تقديـم:
إنّ حياة الإنسان بعد موته، هي الخيط الفاصل بين الإيمان والإلحاد، بين التّفسير الدّيني لحقيقة الإنسان الذي يجعل لحياته ومصيره معنى وغاية وهدفا لقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون:115]، وبين التّفسير المادّي للإنسان الذي لا ينظر إلاّ إلى غذاء جسده، والذي ستنتهي مسرحيّة حياته بالموت والفناء.
فالإنسان متكوّن من مادّة وروح، والرّوح من سَنَنِ الله البديع تجعل للإنسان قيمة إلهيّة بما يبثّ من فضيلة ويزرع من خير وينشر من ضِياء، فتتغيّر بذلك نظرته للحياة ويرى بعين البصيرة ما وراء النتائج العاجلة من سلوك النّاس وتصرّفاتهم.
يقول ابن عطاء السكندري في مواعظه: «لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدّنيا قد ظهرت كسفةُ الفناء عليها». ففي المعتقد الدّيني لا موت إلاّ في هذه الحياة، فمن فارقها انتقل إلى حياة خالدة لا موت فيها.
ولكنّ الفارق كبير والبوْن شاسع بين موت وموت، فموت المؤمن العارف فوز ونجاة، وموت الجاحد الكافر حِرمان وشقاء.
يقول تعالى في سورة الواقعة: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: 89-95].
* دعوة الأديان إلى الإيمان بالبعث:
دعت جميع الأديان السّماوية إلى الإيمان بالبعث والنّشور على لسان رُسُلها وأنبيائها.
° فنوح عليه السّلام قال لقومه: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: 17-18].
° وموسى عليه السّلام قال في دعوته: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55].
° وعيسى عليه السّلام قال وهو في المهد: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33].
وما ورد على سيّدنا موسى وسيّدنا عيسى هو ما قرّرته الدّيانة اليهوديّة في أصلها الأوّل قبل أن يُصيبها التّحريف من وُجود البعث والنّشور والحساب حقيقة، جاء في الكتاب العزيز فحوى التّوراة في مسألة البعث، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى. وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النّجم: 33-38].
ولكن من تتبّع أسفار العهد القديم، يجدها خالية من ذكر اليوم الآخر ونعِيمه وجحيمه. أمّا من تأمّل في الأناجيل سيجد أنّ اليهود حاولوا استدراج المسيح حتّى يوافقهم على إنكار البعث واليوم الآخر، ولكنّهم أخفقوا في محاولتهم بعد أن بيّن لهم المسيح فساد ويُطلان الأدّلة التّي يعتمدونها في هذه القضيّة، وكان ممّا قال لهم: «عجباً لكم! كيف تنكرون قيامة الأموات مع أنّكم تقرؤون في كُتبكم أنّ الله قد قال: "أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والله تعالى إله للأحياء أو لا يصحّ أن يكون إلهاً للأموات"، فلمّا سمعوا منه ذلك بهتوا من حجّته» [إنجيل متّى: إصحاح 22].
وقد أوردت الأناجيل أقوالاً للمسيح في التّبشير بملكوت الله وفي الحساب يوم الدّينونة.
° جاء في إنجيل متّى: «أقول لكم إنّ كلّ كلمة باطلة يتكلّم بها النّاس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدّين» [إصحاح: 12].
° وجاء في إنجيل يوحنّا: «أنا القيامة والحياة، فمن آمن بي فسيحيي وإنْ مات»[إصحاح: 14].
° وجاء في إنجيل مرقس: «وإنْ أعثرتك عينك فأقلعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تُلقى في جهنّم حيث دودها لا يموت والنّار لا تُطفأ»[إصحاح: 8].
والموت عند المسيحيّة هو موت الرّوح والجسد معاً، موت الروح بسلب حياة الرّحمة الإلهيّة التّي بما يصبح الإنسان فوق الكائن الطّبيعي، وموت الجسم بخروجه عن حالته البيولوجيّة.
فليس للموت إذن مفارقة الرّوح للجسد، ولكنّه الفراق بين الإنسان والربّ، بتخلّي العناية الإلهيّة عنه جزاء ما ارتكب من شُرور واقترف من آثام.
فالمسيحيّة تتّفق مع الإسلام في مبدأ الخلود، ولكنّه يختلف عنها في حقيقته، وفي فكرة العدم بالموت بالنسبة إلى الأشرار، فالكافر كما ورد في القرآن الكريم يتمنّى العدم حتّى لا يرى ما يرى من أهوال، يوم ﴿يَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [ النبأ: 40]. ولو كان في حالة عدم حقيقيّة لما جاز عقلاً أن يتمنّى ذلك. وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ [ الفرقان: 27]. فهذا الوعي لا يُتصوّر عندما يكون الإنسان في حالة عدم أو فساد بالموت، وكيف يحسّ المعدوم بمصيره المؤلم وهو في حالة فناء؟
ويبدو أنّ محمّد إقبال تأثّر بمثل هذه الآراء التّي انحدرت من المسيحيّة، قال: «... وليست هناك أعمال تورث اللّذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنّفس البقاء، أو تكتب لها الفناء، فالعمل هو الذي يعدّ النّفس للفناء أو يكفيها لحياة مستقبلة، ومبدأ العمل الذي يكتب للنّفس البقاء هو احترامي للنّفس فيّ وفي غيري من النّاس... إلى أن قال: وعلى هذا فالخلود لا نناله بوصفه حقّاً لنا، وإنّما نبلغه بما نبذل من جُهدٍ شخصيٍّ، والإنسان مرشّح له لا غير» ([1]).
ولكن الذي قرّره القرآن أنّ الخلود أمر حتميّ للإنسان، إمّا في النّعيم وإمّا في الجحيم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا...﴾ [هود: 106-108].
ويقول إقبال: «على أنّه لا مفرّ للنّفس من أن تكافح كِفاحاً موصولاً حتّى توفّق إلى التّماسك وإلى الفوز بالبعث. فالبعث إذن ليس حادثاً يأتينا من خارج، بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النّفس» ([2]).
ولعلّ فكرة الخلود التّي يؤمن بها إقبال إنّما تتمثّل في اتّصال الحياة واستمرار الإنسان فيها ليتلقّى على الدّوام نوراً جديداً من ربّه، أمّا أبديّة الجحيم في الآخرة فينفيها إقبال، ويعتبرها حقبة من الزّمن لتقويم النّفس وتزكيتها، لذلك لا يصحّ أن يُطلق عليها وصف الخلود.
قال محمد إقبال: «وعلى هذا فالنّار كما يصوّرها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلّطه إله منتقم، بل هي تجربة للتّقويم، قد تجعل النّفس القاسية المتحجّرة تحسّ مرّة أخرى بنفحات حيّة من رِضوان الله، وليست الجنّة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة متّصلة، والإنسان يسير دائماً قدماً يتلقّى على الدّوام نوراً جديداً من الحقّ غير المتناهي» ([3]).
وهذا الرأي فيما يبدو مخالف لما نعلمه في القرآن من أنّ دار الابتلاء والاختبار والتجربة إنّما هي الدّنيا، أمّا الآخرة فهي دار جزاء فقط، فكيف تكون التجربة للتّقويم ؟
* إنكار عرب الجزيرة البعث:
لقد وصف القرآن الكريم نكران عرب الجزيرة عقيدة البعث والنشور عندما قال تعالى على لسان معطّلة العرب مثلما سمّاهم الشّهرستاني في كتابه "الملل والنِّحل": ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24].
ونقل الشّهرستاني ما قاله شداد بن الأسود اللّيثي عند رثائه مُشركي قُريش يوم بدر:
يخبرنا الرّسول بأن سنحيا ** فكيف حياة أصداء وهام ([4]).
ولقد وردت أقوال فيها سخريّة من البعث منها:
- «أُناس يقضون عيش النّعيم ونحن نُحال إلى الآخرة ... فإنْ لم يكن مثلما يزعمون فتلك إذا كرّة خاسرة»
- خُذْ ما تراه ودعْ شيئاً سمعت به.
- لا نبيع ذرّة منقودة بدرّة موعودة.
- حياة ثمّ موت ثم بعث ** حديث خزانة يا أمّ عمرو
ولقد بيّنت السّيرة النبويّة ذهنيّة العرب الوثنيّة في أثر أخرجه الحاكم النيسابوري عن ابن عبّاس، قال: «جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم حائل ففتّته وقال في سخرية: يا محمّد ! أَيُبعث هذا بعد ما أَرِمَ؟ قال نعم! يبعث الله هذا ثمّ يميتك ثمّ يحييك ثمّ يدخلك نار جهنّم»، فنزلت الآيات: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [ يس: 77-79].
لقد اقتضت الحِكمة الأزليّة أن يبتلى الإنسان بزينة الحياة الدُّنيا وبالهوى، فكان بذلك عرضة للفسوق والعصيان، والغفلة والنّسيان والإعراض عن الحقّ، فأرسل الله إليه رسله وأنزل كتبه، وبيّن له مواقع رِضاه وغضبه، وأنّ النّعيم لا يدرك بالنّعيم، وأنّ أعظم اللّذات محجوب بأنواع المكاره، فلم تقوَ عُقول الكثيرين على إيثار الآجل المنتظر بعد فناء الدُّنيا، على هذا العاجل الملموس، بل إنّ خيالهم لم يتّسع لتصوّر نشر جديد لعد ظلمة القبر وفناء الجسد، وأنّا سنموت كما سننام ونُبعث كما سنستيقظ، ولاسيما العرب الذين لم يكلّفوا قطّ بشريعة، لوجودهم في فترة من الرُّسل بين جدّهم إسماعيل ومحمّد عليهما السّلام ([5]).
وبتعاقب الدّهور وتأثير الوراثة، تأصّلت في العرب عقيدة الشِّرك والوثنيّة، حتّى صار من العجب أن يُقال لهم: الله واحد، بدليل قوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ ص: 5 ].
* البعث في القرآن والسُنّة:
لقد استعمل القرآن الكريم في ردّه على مفكّري البعث على اختلاف اتُجاهاتهم، مختلف البراهين لإقناعهم بأنّ الساعة حقّ وأنّ الله يبعث من في القُبور. وتقوم عقيدة البعث على أصول لا بدّ من اعتبارها في عقيدتنا، وهي:
- غاية الوجود:
يوجّه القرآن الكريم الأنظار إلى أنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق هذا الكون باطلاً ولغير هدف، يقول جلّ ذكره: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الدّخان: 38-39].
وبيّن سُبحانه أنّه لم يخلق الإنسان عبثاً، قال عزّ جلّ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [ المؤمنون: 115 ].
وقال أيضاً: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [ القيامة: 36 ]. وقال جلّ شأنه: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾ [ النّجم: 39-41 ].
تُبيّن العقيدة الإسلاميّة أنّ الإنسان له حريّة عميقة في كيانه، لكنّها ليست حرّية الفوضى الخلقيّة التّي تنتهي دائماً بتهديم الإنسان وتمزيق علائقه مع الوجود الخارجي من حوله.
فالحقّ الذي خلق الله تعالى به الكون، يتنافى مع الفلسفة الوجوديّة المُلحدة، فليس ثمّة عبث كما يرى "ألبير كامو"، وليس ثمّة لا معقوليّة للحياة والوجود كما يرى "كافكا"، وليس ثمّة حرّية لا أخلاقيّة مُطلقة من كلّ قيد كما يرى "سارتر"، وليس ثمّة تناقضات نفسيّة لا نهاية لها، تنتهي دائماً بالضياع كما يرى "دستوفسكي"، ذلك أنّ الإسلام يستمدّ تجاربه الباطنيّة من خِلال الحقيقة لا الزّيف، ومن الاستقامة لا الانحراف، ومن المعرفة لا الضياع ([6]).
وإنّ ارتباط الوجود الإنساني بمصيره هو النّقطة التّي تفترق فيها الطُّرق بين النّاس، لا في نظرتهم إلى الحياة وفلسفتهم فيها فحسب، بل في أخلاقهم ونمط سلوكهم ومدى إيمانهم.
فالإيمان بمصير الإنسان بعد الموت يجعل لحياته غاية سامية وهدفاً أعلى، والقرآن الكريم حافل بآيات تُقيم الأدّلة على أنّ الكون ليس مُهملاً كما يزعم الملاحدة، بل خلق الخلق بالحقّ، ليكون الابتلاء والاختبار الذي سيعقبه بعث للحساب والجزاء، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [ المُلك: 2 ].
فالإيمان بالله تعالى يُحقّق المعرفة بالمصدر الأوّل، والإيمان بالبعث يُحقّق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه هذا الوجود، وعلى ضوء المعرفة بالمصدر والمصير يمكن للإنسان أنم يُحدّد هدفه ويرسم غايته، ويتّخذ من الوسائل والذّرائع ما يُوصله إلى الهدف ويبلغ به الغاية.
ومتى فقد الإنسان هذه المعرفة، فإنّ حياته سوف تبقى بلا هدف ولا غاية، وحينئذٍ يفقد الإنسان سموّه الرّوحي، ويعيش كما تعيش الأنعام، وهذا هو الانحطاط الرّوحي المدمّر لشخصيّة الإنسان والمنافي للحِكمة الإلهيّة العُليا من هذا الوُجود.
- نهاية العالم:
تُؤكّد عقيدة البعث على فناء هذه الدّنيا وانتفاء أزليّة هذا الكون، ويؤكّد علماء الفلك حتميّة اختلال الأجرام السماويّة ([7]). ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [ الانفطار: 1-5 ].
جاء في كتاب "المعاد" قوله: «إنّ قانون الدّيناميكيّة الحراريّة يثبت أنّ الحرارة ليست دائمة إلى الأبد، وأنّ يوم انتهائها سيأتي حتماً، والكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها مَعِين الطّاقة، ويومئذٍ لن تكون هناك عمليات كيميائيّة أو طبيعيّة وذلك بحكم الانتقال الحراريّ المستمرّ من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوّة ذاتيّة، بحيث تعود الحرارة وترتدّ من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارّة، وعندئذٍ تقف حركة الحياة ويموت الأحياء» ([8]).
إنّ السّاعة آتية لا ريب ذلك ولا مفرّ منها، ستأتي حينما تبلغ الأرض زينتها وزُخرفها، ويظنّ الإنسان أنّه قادر على كلّ شيء، بما يملك من زمام الأمور وبما بلغه من علوم، ولا تأتي السّاعة إلاّ بعد فناء الكون.
* سكرات المـوت:
ليس الموت خِتاماً لمعنى الحياة وابتداء لحالة أخرى لا شعور فيها ولا إحساس معها، إنّما هو مرحلة تحوّل من طوْر إلى آخر، يقول الأديب المصري عبّاس محمود العقّاد:
أراني على الحاليْـن روحــــــــاً وبُنيـة ... أحسّ بأنّ الموت ليـس بمُفقـدي
فإنْ كنت ذا جِسم ذوى قبل مصرعي ... وإنْ كنت ذا روح فروحي مخلّدي ([9]).
إنّ الموتَ هو الفجيعة الكُبرى للجاحدين الذين سيعرفون بعد الموت كلّ شيء وسيُدركون أنّهم كانوا في ضلال بعيد، سيتمّ ذلك بعد فوات الأوان، يقول تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون. وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [ الجاثية: 33-34 ].
تثبت العقيدة الإسلاميّة أنّ ما يقع للجسد من فساد لأجهزته وفنائه لا يؤثّر في حقيقة الرّوح ولا في كيان الإنسان المعنويّ، يقول السّهروردي وهو يصف حال الميّت:
قُل لأصحـاب رأوْني ميّتـاً ** فبكوني إذ رأوني حزنـا
لا تظنّوني بأنّـي ميّـــت ** ليس هذا الميّت والله أنـا
أنا عصفور وهـذا قفصـي ** طرت عنه فتخلّى رهنـا
فاخلعوا الأنفس عن أجسادها ** فتروْن الحقّ حقّاً بيّنــا
لا تُرعكم سكرة الموت فمـا ** هي إلاّ بانتقال من هُنـا
ولقد عبّر القرآن الكريم عن لحظة الفزع ولحظة خروج الرُّوح من الجسد بسكرة الموت، قال جلّ وعلا: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ ق: 19 ]. وقال صلى الله عليه وسلّم يوم مفارقته الدُّنيا وهو يمسح وجهه بالماء: «لا إله إلاّ الله إنّ للموت سكرات». لقد عاش الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لحظات النَّزع، فكيف حال العُصاة والملاحدة عند النّزع، لقد وصف القرآن الكريم هذا المشهد بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [ الأنعام: 93 ].
وإنّ أوّل منازل الآخرة هو القبر، فهو يضيق ويتّسع ويُظلم ويُنوّر بحسب مكانة صاحبه عند ربّه، والأدّلة على ذلك كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري أنّه لمّا مات أبو سلَمة دخل عليه الرّسول صلى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «اللّهم اغفر لأبي سلمة وافسح له في قبره ونوّر له فيه». أمّا الدّليل على سؤال الميّت في القبر ما أخرجه مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا فرغ من دفن ميّت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنّه الآن يُسأل». وما أخرجه البخاري عن حديث البراء بن عازب أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الآية ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إبراهيم: 27 ] نزلت في عذاب القبر».
فالقبر فيه فتنة ووِشحة وابتلاء وسؤال الملكين، والدّليل على وجود عذاب القبر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، قال صلى الله عليه وسلّم: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، وإنْ كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة، وإنْ كان من أهل النّار فمن أهل النّار، فيُقال هذا مقعدك حتّى يبعثك الله يوم القيامة». وممّا يؤكّد هذا الحديث قوله تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46 ].
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: «هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدُّنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة، ويوم تقوم القيامة...»([10]).
فإنّ وقت الموت أو المرحلة بين الدّنيا والبعث هي حياة البرزخ التّي قال فيها تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100 ].
يقول القشيري: «من مات فقد دخل البرزخ، وما بين الموت والبعث فإمّا راحة متّصلة وإمّا آلام وآفات غير منفصلة» ([11]).
وإنّ الأرواح متفاوتة في مستقرّها في البرزخ حسب شقاوة صاحبها وسعادته إلى أن يأتي اليوم الآخر، هذا اليوم العظيم الذين اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً بالغاً، فتناول حقيقة اليوم الآخر وما يكون فيه من بعث وحِساب وجزاء، ثمّ ما يتبعه من حوض وصراط وشفاعة، واعتبره ركناً من أركان الشّريعة الإسلاميّة.
ويتجلّى هذا الاهتمام بكثرة ذكر القرآن الكريم لليوم الآخر، فلا تكاد تخلو سورة من الحديث عنه ولو في إشارة أو تلميح مع تقريبه إلى الأذهان، تارة بضرب الأمثال، وتارة بالحجّة والبرهان، وكثيراً ما نجد القرآن الكريم يتحدّث عن الدّنيا كأنّها ماضٍ كان، وعن الآخرة كأنّها الحاضر الآن منا قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[ الزُّمر: 71 ].
* الأدّلة الشرعيّة المثبتة للبعث:
إنّ الموت في واقعه ليس انعداماً لأجزاء الإنسان، بل تفريقاً لها، وعندما تتعلّق إرادة الله بعودة الأجسام، يجمع هذه الأجزاء المشتّتة ويؤلّفها على حالتها السابقة جسماً وروحاً، وذلك هو المعاد، وما وقع لإبراهيم الخليل عليه السّلام لمّا سأل ربّه بقوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ ؟ وجواب الله تعالى له خير دليل على إعادة الخلق من جديد، قال تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ بمعنى أن يقطعها إبراهيم عليه السّلام إلى أجزاء صغيرة يختلط بعضها ببعض خلطاً غير قابل للتجزئة والتّمييز ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [ البقرة: 260 ].
قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: «يميّز الله تعالى أجزاء كلّ طير عن صاحبه ويجمع أجزاء كلّ واحد منها مستقلاًّ عن الباقي، فإذا اكتملت لكلّ طائر هيئته الخاصّة به أوْدع فيه الحياة حتّى يطمئن إبراهيم إلى هذه الحقيقة، ويتحقّق علمه، وينتقل من معالجة الفكر والنّظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة، وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشّبه عن العقل»([12]).
وهذا المثل القرآني الدّقيق صريح الدّلالة على أنّ الموت تفريق للأجزاء، وليس انعداماً لها كما يظنّ المفكّرون الذين استعظموا عودة الحياة الإنسانيّة بعد انقطاع الحواس وانفصال الشّعور عن الجسد.
والنّصوص القرآنيّة التّي تُؤكّد إعادة الخلق والبعث والنّشور كثيرة ووفيرة منها قوله تعالى:
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [ البقرة: 28 ].
﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا. قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا. َوْخَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [ الإسراء: 49-51 ].
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [ الرّوم: 27 ].
﴿وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا. أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا﴾ [ مريم: 66-67 ].
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [ الحجّ: 6-7 ].
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾ [ الواقعة: 60-62 ].
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [ فصلت: 39 ]. هذا نوع من قياس الدّلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلّة وملزومها مثلما قال علماء أصول الفقه. فدلّ سبحانه في هذه الآية عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحقّقوه وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء واعتبار الشيء بنظيره، والعِلّة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلّة.
والقرآن الكريم إذْ يدعم عقيدة البعث بمختلف الوسائل والطُّرق، فليس ذلك فقط على قرارٍ ألزم الله به نفسه، وإنّما على أحد مستلزمات العدل الإلهي والحكمة السّامية، حتّى لا تكون حياة الإنسان بلا غاية ولا هدف، إنّ حاجة الإنسانيّة ملحّة إلى الآخرة لضمان الخلود وإقامة العدل وتنظيم الحياة ([13]).
وهكذا، فإنّ الإيمان بالبعث كالإيمان بالله كلاهما لا يقبل شكّاً ولا تردّداً، لأنّ الفِطرة السليمة تنساق إلى هذا الإيمان.
فالإيمان بالله يعترف بالمصدر الأوّل للوجود، والإيمان بالبعث يعترف بمصير الإنسان فيه، ومن حُرم هذه المعرفة أضحت حياته كحياة الأنعام تقوده الأهواء وتُسيّره الغرائز. والله تعالى لم يخلق الإنسان بيديه، ولم ينفخ فيه من روحه ولم يأمر ملائكته بالسّجود إليه، ولم يحمّله الأمانة ولم يجعل له الخلافة، ولم يسخّر له ما في السّموات والأرض إلاّ لِيجعل من وجوده غاية سامية تتّفق مع حِكمته العُليا وعدله المُطلق، حتّى لا تذهب جهود هذا الإنسان سدى مِصداقاً لقوله جلّ ثناؤه:﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [ الجاثية: 22 ].
* الإمام النّورسي ورسائل البعث:
عاش الإمام بديع الزّمان النورسي في زمن الحروب والفِتن، وآل على نفسه دعوة المسلمين إلى التمسّك بدينهم، واقتناعاً منه بأنّ الدّعوة المحمّدية لم ترَ النّور إلاّ بعد أن غرست أركان العقيدة في نفوس المسلمين الأوّلين، أهتمّ النّورسي بالعقيدة في رسائله وتناول البعث والنّشور بالدّرس ليقوّي إيمان أتباعه ويذكّرهم بعاقبة أمرهم ليصمدوا ويصبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرّقوا.
فالرّجل قد لاقى الويْلات وذاق معاناة السّفر والحرب والأسر، ومنذ سنة 1918 وبعد عودته من الأسر قام باستراحة قصيرة راجع فيها نفسه وكأنّنا به يستشعر مآل الأوضاع نتيجة لالتصاقه الطويل بواقعه السّياسي والاجتماعي، لذلك نجده بسبب هذا الاستشعار المتولّد عن الواقع المتأزّم، يعيش مرحلة يأس ابتداء بنجاته من مآسي الحرب والحفاوة التّي قُوبل بها وسًكناه في أرقى أماكن استانبول. يقول بديع الزّمان النورسي عن هذه المرحلة: «كانت وسائل النّشر مفتوحة أمامي في دار الحِكمة الإسلاميّة... وبينما كنت أحسّ بأنّي أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى مرآة ورأيت شعرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحيّة تبدأ بالظّهور، فأخذت أنعم النّظر وأفكّر مدقّقاً في تلك الحالات التّي كنت ارتبط بها قلبيّاً... » وبعد فترة من التأمّل توصّل النّورسي إلى قرارٍ حاسمٍ تمثّل في قوله: «إنّه ليس لدائي دواء إلاّ عند الباقي السّرمدي عند القدير الأزلي فبدأت أبحث وأستقصي» ([14]).
وبحثه واستقصاؤه سيقوده إلى ما بعد النهاية (الدّنيويّة) إلى ملاقاة عليم قدير، إلى خلود ونعيم وملاقاة ربّ كريم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ النّورسي القديم الذي شغلته السياسة ومشاكل الدّولة العثمانيّة عن التأمّل في القرآن الكريم الذي كان قد حفِظه منذ نعومة أظافره، فإنّ مرحلة التأمّل هذه جلته يهتمّ بالقرآن العزيز ويدعو إلى النّهل من معينه المباشر دون وسائط ([15]). ويعمل على إخضاع كلّ معارفه لخدمة القرآن، فهو القائل: «القرآن هو أسمى مُرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق، ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه» ([16]). وهو القائل أيضاً: «... القرآن هو مفتاح لحقائق الشؤون... المضمرة في سطور الحادثات... وكذا هو خريطة العالم الأخروي... وهو المربّي للعالم الإنساني...» ([17]). فقوله: «هو خريطة للعالم الأخروي» دفعه إلى التأمّل في الآيات البيّنات التّي اعتنت بالبعث والنّشور وخصوصاً في الفترة المكّية.
هذا في المجال القرآني، أمّا في مجال علم الكلام والعقيدة، فإنّ النّورسي قد تشبّع بهذا العلم الذي يعتبر الآخرة وتوابعها من أركانه الأساسيّة ([18]).
إنّ تأثّر بديع الزّمان بالفكر الصوفي منذ طفولته بحكم نشأته في البيئة الأناضوليّة العثمانيّة العريقة في تصوّفها دفعه إلى التأمّل في ما وراء هذا الكون وهذا العالم الدّنيوي الفاني، فالنّورسي متأثّر بالتصوّف السُنّي وبأقطابه مثل عبدالقادر الجيلاني وحجّة الإسلام الغزالي وجلال الدّين الرّومي والإمام الربّاني، ويكفي أن نلاحظ اسمين من أسماء كتبه وهما : "المثنوي العربي النّوري" و"مكتوبات"، وهما على نفس تسمية "مثنوي جلال الدّين الرّومي" و"مكتوبات الإمام الربّاني" ([19]). لتُثبت غوص الإمام النّورسي في الفكر الصوفي واهتمامه بالموت وسكراته والقبر وويِلاته والحِساب وامتحاناته.
كما ضمّن بديع الزّمان بعض كلماته بيان الأسس العلميّة للاستدلال على مسائل الآخرة، وفق المسلك القرآني في التّأسيس للاعتقاد، فتناول حقائقها البيّنة، مشفوعة بأدّلتها القطعيّة، فكانت حُججاً ناهضة محقّقة للمرغوب لكلّ من ألقى السّمع وهو شهيد إذ تنمّي في المستدلّ من خلال شواهدها، الأبعاد الوظيفيّة المنتظرة من التّصديق بالآخرة وقِيام السّاعة.
ولعلّ أوّل علاماتها صباغ الفعل البشري لمعتقديها بصبغة إنسانيّة تجعل خدمة الإنسانيّة غاية جزئيّة دائمة ترتبط بها مرضاة الله وجوداً وعدماً. فكلّما استحضر المؤمن قِيام السّاعة، وخاصّة أثناء ممارسة الأداء اليوميّ كان أكثر خدمة لنفسه ووطنه والإنسانيّة وأكثر تحرّراً من نزواته وحيوانيّته الضارية، فكان التّصديق بالآخرة عاملاً مهمّاً في إخراج الدّنيا من العبثيّة إلى الهدفيّة الظّاهرة التّي تجعل من الاستكثار من الخير في الدّنيا لله سبباً في الفلاح في الآخرة ووسيلة للنّجاة من النّار وسمومها ([20]).
كما أدرج النّورسي في "الكلمات" مجموع نكات تدور حولها سعادة الإنسان وشقاوته، وخصّ النكتة الثانية لبيان جهتيْ التّكوين البشري، وتتخلّص أولاهما في الأنانيّة المقصورة على الحياة الدّنيا، والثانية "العبوديّة" الممتدّة إلى الحياة الأبديّة، فإذا ربّى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام، وغذّاها بضِياء الإيمان تحت تراب العبوديّة، موجّهاً أجهزتها المعنويّة نحو غاياتها الحقيقيّة، بامتثال الأوامر القرآنيّة، فلا بدّ أنّها ستتفتّح أزاهيرها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة، وفي الجنّة نِعَماً جامعة لدقيقة دائمة ويغدو الإنسان آلة نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرة مباركة منوّرة لشجرة الكون. والسموّ الحقيقي إنّما بتوجّه القلب والسّر والرّوح والعقل وسائر القوى الممنوحة للإنسان إلى الحياة الأبديّة الباقية، واشتغال كلّمنها بما يخصّها من وظائف العبوديّة ([21]).
ففي الكلمات والشعاعات وغيرها من الرسائل المبدعات، تناول الشيخ الإمام بديع الزّمان النّورسي الآخرة وما تبِعها، وفي رسائله كاّفة، حاول النّورسي تجلية الأمر في الفرق بين مسلك أهل الضلال من جهة، ومسلك أهل الإيمان من جهة أخرى، فالأوّل يمثّل طُرق الشّقاوة، والثاني يمثّل طريق السعادة والرقيّ والحضارة، والنجاح في الدّنيا والفلاح في الآخرة.
رسائل نورانيّة إيمانيّة ألّفها مُصلح جاهد بنفسه وقلمه ولِسانه لرفع كلمة الله العُليا، فنال مرضاة ربّه وفردوس جِنانه.
دعـوة ملحّـة:
والآن ورغم وُجود رسائل النّور والأصليّة المترجمة لعدّة لُغات، ورغم الكُتب والنّدوات العلميّة التّي عُقدت خارج تُركيا حول شخصيّة بديع الزّمان النّورسي، مثل كتاب "رجل القدر في حياة أمّة" ([22]). وإسهامات الباحث التّركي نجم الدّين شاهينر([23]). وجهود إحسان قاسم الصالحي في تعريب آثار الرّجل، ورغم اهتمام المستشرقة الإنجليزية ماري ويلد بالبحث حول النّورسي وفكره وصاحب كتاب "بديع الزّمان مؤلّف رسائل النّور".
ورغم النّدوات التّي عُقدت بالمملكة المغربيّة للتّعريف بالإمام النّورسي، وكانت سنة 1999 تحت عنوان: «تجديد الفكر الإسلامي في القرن 14هـ: جهود بديع الزّمان».
والثانية في سنة 2000 تحت عنوان: «حوار الشّرق والغرب في رسائل النّور»، ورغم بعض الكتب التّي تقدّم بها بعض الباحثين الجزائريّين مثل الأستاذ عمار جيدل في كتاب "بديع الزّمان النّورسي وإثبات الحقائق الإيمانيّة (المنهج والتّطبيق) ([24]).
والأستاذ سليمان عشراني في كتابه "بديع الزّمان النّورسي سيمياء الشّكل والصميم" ([25]). فإنّ النّورسي معروف في الغرب لاهتمام المستشرقين بشخصيّته ورسائله مبكّراً، وهو معروف أيضاً في منطقة الشّرق العربي منذ أن سمحت له السلطات التركيّة بأداء مناسك الحجّ سنة 1947م، وتعمّقت هذه المعرفة أكثر بعد تعريب الدّكتور إحسان قاسم الصالحي الأعمال الكاملة للنّورسي ونشرها في بلاد المشرق.
أمّا في منطقة المغرب العربي، فإنّ السّيرة الذّاتية لبديع الزّمان لم تنتشر بالشكل المطلوب، فمثلاً لم يخصّص له الأستاذ محمد بوذينة في كتابه "مشاهير القرن العشرين" إلاّ صفحة واحدة ([26]). ولم تتناوله جامعة الزّيتونة إلاّ في رسالة جامعيّة نال بها صاحبها شهادة الدّراسات المعمّقة، وعنوان الرسالة "بديع الزّمان النّورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كلّيات رسائل النّور"([27]).
فالمراكز التركيّة المهتمّة بهذه الشخصيّة مدعوّة لتوسيع نشاطها ومزيد التّعريف بالإمام العلامة بديع الزّمان النّورسي وبآثاره طيّب الله ثراه.
المراجع
1. الآلوسي، محمد شكري: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ط. مصر، 1958م.
2. آل ياسين، محمد حسين: المعاد، ط. بيروت، 1972م.
3. أورخان، محمد علي: رجل القدر في حياة أمّة، ط.1، 1416هـ، النّسل للطباعة، استانبول.
4. إقبال، محمد تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، تعريب عبّاس محمود العقّاد، ط. القاهرة، 1955.
5. بوذينة، محمد" مشاهير القرن، العشرين، منشورات بوذينة للنّشر، تونس.
6. جيدل، عمّار: بديع الزّمان النّورسي وإثبات الحقائق الإيمانيّة (المنهج والتّطبيق)، ط, شركة النّسل، استانبول، 2001.
7. الحجري، حمّادي: بديع الزّمان سعيد النّورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كلّيات رسائل النّور، رسالة جامعيّة مرقونة بجامعة الزّيتونة، 1999-2000.
8. خان، وحيد الدّين: الإنسان يتحدّى، تعريب ظفر الإسلام خان، ط. بيروت، 1973م.
9. خليل، عماد الدّين في النّقد الإسلامي المعاصر، ط. بيروت، 1972م.
10. الشهرستاني: الملل والنحل.
11. ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر.
12. عبدالحميد، محسن: النّورسي متكلّم العصر الحديث، ط. القاهرة، [د.ت].
13. العقّاد، عبّاس محمود: بعد الأعاصير، ط. مصر، 1950م.
14. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ط. القاهرة، 1967م.
15. القشيري، عبدالكريم: لطائف الإشارات، تح إبراهيم بسيوني، ط. القاهرة، مصر.
16. متّى: إنجيل متّى
17. مرقس: إنجيل مرقس.
18. نقرة، التهامي: عقيدة البعث في الإسلام، دار القلم، تونس.
19. النّورسي: رسائل النّور: اللّمعات، تعريب إحسان قاسم الصالحي، ط.1، 1413هـ، ط. النّسل للطباعة والنشر، سوزلر، استانبول.
20. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: إشارات الإعجاز في مظانّ الإعجاز، مطبعة النّور، أنقرة، 1959م.
21. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: ج2، المكتوبات، ط.1، شركة النّسل للطباعة، تح إحسان قاسم الصالحي، استانبول، 1992م.
22. النّورسي، بديع الزّمان سعيد: كلّيات رسائل النّور، ج 6، المثنوي العربي النّوري، تح إحسان قاسم الصالحي، ط.1، مصر، نشر وتوزيع دار سوزلر للنشر، فرع القاهرة، 1995م.
23. ياوز، يوسف شوقي: رسائل النّور من زاوية المشكلات الكلاميّة، أعمال المؤتمر العالمي لبديع الزّمان النّورسي: تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين رقم3، استانبول، 24-26، سبتمبر 1995، ترجمة أورخان البياتي وآخرون، ط. 1996.
24. يوحنّا: إنجيل يوحنّا.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 21, 2011 12:37 am من طرف Admin
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
السبت مايو 21, 2011 12:32 am من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 3
الجمعة مايو 20, 2011 10:10 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 2
الجمعة مايو 20, 2011 10:00 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
الجمعة مايو 20, 2011 9:17 pm من طرف Admin
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 9:08 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:50 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:21 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الأول
الجمعة مايو 20, 2011 7:38 pm من طرف Admin