الوسطية و الإعتدال في الفتاوى التونسية المعاصرة
صفحة 1 من اصل 1
الوسطية و الإعتدال في الفتاوى التونسية المعاصرة
منهج الوسطيّة والاعتدال
في الفتاوى التّونسيّة المعاصرة
د/ محمد بوزغيبة
المعهد العالي لأصول الدّين، جامعة الزّيتونة.
1. السّنــد الفقهي التّونسي :
يعود السّند الفقهي التّونسي إلى الصحابة الّذين شاركوا في فتح إفريقيّة (تونس)، غير أنّ ظروف الفتح، وما كان من ارتدادات الأفارقة، لم تساعد على استقرار بعض الصحابة للتّعليم والتّفقّه في الدّين، ومع ذلك نجد من تتلمذ للصحابة من تونس: كعكرمة بن عبد الله البربري (105هـ/723م) الّذي أخذ التّفسير عن عبد الله بن عباس ( ).
وفي عهد التّابعين ارتحل إلى المشرق علماء الجيل الأول من أهل إفريقيّة لزيادة التّلقّي من علماء المشرق، ومن بينهم عبد الرّحمان بن زياد بن أنعم (161هـ/777م) الّذي أقام بمكة مدة ودرّس بها، وكانت له فيها مجالس مشهورة حتى أقبل عليه سفيان الثوري وأخذ عنه، ثم رجع إلى القيروان ودرّس بها ( )، وخالد بن أبي عمران التجيبي (167هـ/783م) الّذي تلقى العلم عن التّابعين من مدرسة عمر بن الخطّاب، فأخذ عن عبد الله بن سالم بن عمر وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعن سليمان بن يسار المدني ( ).
ومن علماء إفريقيّة الأوائل أيضا: أبو عمران موسى اللّخمي (163هـ/779م) وعبـد الله بن فـروخ (176هـ/792م) الّذي عاصر الإمام مالك بن أنس وغيرهم كثير.
هذه الفئة العلميّة حملت العلوم الشرعيّة إلى أهل تونس الّذين كانوا متعطّشين إلى هذه العلوم، ويدلّ على هذا ما قاله التّجيبي لشيخيه عبد الله بن سالم والقاسم بعد أن حمل مسائل من بلده تونس، قال: "إنّا بموضع جفاء وإنّهم حمّلوني هذه المسائل وقالوا لي: إنّك تقدم المدينة وبها أبناء أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فسلهم لنا، وإنّكما إن لم تفعلا كانت حجّة لهم فما شئتما ؟ فقال القاسم بن محمد: "سل، فسألهما فأجاباه فيما سألهما فيه ( ).
وبعد ظهور المذهب المالكي، رحل إلى إمام دار الهجرة على بن زياد وعبد الرّحمن بن أشرس أسد بن الفرات، ورجعوا إلى أفريقيّة بعلم غزير، فدوّنه وهذّبه وراجعه على عبد الرّحمن بن القاسم – أبرز تلاميذ الإمام ملك – الإمام سحنون صاحب المدوّنة الكبرى الّتي تعتبر المصدر الأساسي الأوّل للمذهب المالكيّ.
2. نفــوذ المذهب المالكي بتونس
تقبّل أهل تونس المذهب المالكي واعتنوا بالمدوّنة الكبرى عناية فائقة، وكانوا لا يلتفتون إلى غيرها، إلى أن جاء البراذعي وقام بتهذيب المدوّنة وحذف المكرّر منها، وكان المعوّل عليها في كامل المغرب الإسلامي.
قال القاضي عياض (544هـ/1159م) في مداركه: "ظهرت بركة هذا الكتاب على طلبة الفقه وتيمّنوا بدرسه وحفظه وعليه معوّل أكثرهم بالمغرب والأندلس."
ثمّ ألّف عبد الله بن زيد القيرواني (386هـ/996م) الرّسالة الّتي نالت شهرة بالغة وانتشرت في سائر بلاد المسلمين، وبيعت بمثل وزنها ذهبا مثلما ذكر أبو بكر الأبهري البغدادي.
وتواصل السّند الفقهي التّونسي عبر أبي الحسن القابسي وسعيد بن الحدّاد (302هـ/914م) وأبي الحسن الخمي (478هـ/1085م) والإمام المازري (536هـ/1141م).
ولما ألّف خليل بن إسحاق الجندي المصري (776هـ/1277م) مختصره الفرعيّ المالكيّ اعتمد على ثلاثة فقهاء من أهل الترجيح من تونس، وهم اللّخمي والمازري وأبو بكر الصقلي، أما الرّابع فهو ابن رشد الجدّ الأندلسي.
قال السّجلماسي في متنه وهو يتحدّث عن المختصر الخليلي:
فاللخميّ تاج ماز فضـلا أبو بكر تفضّل نال أوّلا
وإن أبا الوليد ثوى كريما ومازريّ تراه وإن دليلا
ولكلّ موضوعيّة، فإنّ مصادر المذهب المالكي الثلاثة تونسيّة الأصل، وأعني بها المدوّنة والرّسالة والمختصر الّذي عوّل فيه خليل على علماء من تونس، فهو يضمّ إذا السّند الفقهيّ التّونسي.
ثم تواصل السّند الفقهي المالكي عن طريق أبي إسحاق بن عبد الرفيع (733هـ/1332م) ومحمد بن عبد السلام الهواري (837هـ/1433م) وقاسم عظوم القيرواني هذا في العهد الحفصي ...
كما اتّصل السّند الفقهيّ التّونسي على يد عائلات علميّة كآل ابن عاشور وآل بيرم وآل النّيفر وآل صدّام وآل الشريف وآل جعيط في العهد الحسيني،
وعلى يد فقهاء أجلاّء بلغوا مرتبة التّرجيح كالشيخ إسماعيل التميمي (1832هـ/1913م) والشيخ محمد السنوسي الجدّ (- هـ/1879م) والشيخ إبراهيم الرياحي (1267هـ/ 1850م) والشيخ سالم بوحاجب (1344هـ/ 1925م). وعن هؤلاء ظهر فقهاء القرن 14هـ - 20 ميلادي الّذين دأبوا على الإفتاء اعتمادا على الأيسر والأوفق والأصلح و أخذا بالتوسّط والاعتدال ومراعاة للعصر ومستجدّاته.
3. نظريّــة الفتــوى في تونــس:
الفتوى: هي الإخبار بحكم الشرع لا على وجه الإلزام، وخرج بالقيد الآخر حكم القاضي، لأنّه مبنيّ على الإلزام عند من يرى ذلك ( )، وذهب القرافي إلى التّوافق الإلزامي بين القضاء والتوى. قال في فروقه: "إنّ الفتوى والحكم كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى، ويجب على السّامع اعتقادهما، وكلاهما يلزم المكلّف من حيث الجملة، لكنّ الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، والحكم إخبار وإلزام من قبل الله تعالى" ( ).
قال التّسولي (1258هـ/1842م) في البهجة: "فإلزام الفتوى إلزام ديانيّ من وجدان الإنسان، بينما إلزام القضاء مبنيّ على القوّة والقهر حماية للحقوق وضمانا لاستقرار المعاملات، وأمّا العبادات فلا سلطان للقضاء عليها إلا ما تعلّق منها بمصلحة دنيويّة ( ). وإنّ الحقيقة الواقعية هي منطلق الموازنة بين إخبار المفتي وأحوال المستفتي. ويؤيد هذا المنحى قوله صلّى الله عليه وسلّم: استفت قلبك، البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصدر وأن أفتاك النّاس وأفتوك ( ).
قال ابن قيّم الجوزيّة: "لا يجوز العمل بمجرّد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: "فاستفت نفسك وإن أفتاك النّاس وأفتوك." فيجب عليه أن يستفتي نفسه أوّلا، ولا تخلّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أنّ الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "من قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من نار."
والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظنّ المستفتي أنّ مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أنّ الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردّد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسّنة، أو لأنّه معروف بالفتوى بالحيل والرّخص المخالفة للسّنةّ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النّفس إليها، فإن كان عدم الثّقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيا، وثالثا حتّى تحصل الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة ( ).
ومن خصائص الفتوى الّتي ذكرها فقهاء الإسلام:
- أنّها مؤسّسة على الإخبار بحكم شرعيّ.
- أنّها متعلّقة بالأحكام الشرعيّة.
- أنّها مبنيّة على السّؤال.
- أنّ لها تعلّقا بالاعتبار الدّياني.
والجدير بالملاحظة أنّ الفتاوى والنّوازل والمسائل والأجوبة تطلق على مسمى واحد وهو ما يجيب به المفتي عن سؤال ( ).
4. الفتـــوى في تونـــس:
تقلّد كبار الفقهاء بتونس الفتوى بصفة فرديّة أو بصفة جماعيّة، كان ذلك إمّا بصفة رسميّة أو بصفة خاصّة، ويمرّ المفتي بالدّيار التّونسيّة بدرجات ثلاث: مفتي المذهب، كبير أهل الشورى، باش مفتي، شيخ الإسلام.
ومن بين الفقهاء الّذين أطلق عليهم لقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (728هـ/1327م) والعزّ بن عبد السّلام (660هـ/1261م) ومحمد بن عرفة (803هـ/1400م).
وكان أهل العلم بتونس يطلقون هذا اللّقب على من ينفرد بالتفوّق بينهم من شيوخهم، وأوّل فقيه لقّب بشيخ الإسلام في تونس هو الشيخ علي الصوفي سنة 1133. أمّا من تولاّها بصفة رسميّة فهو الشيخ محمد بيرم الرّابع في القرن 13هـ / 19م. ( )
أمّا الفتوى المعاصرة، فإنّه لا يتصدّر إليها بتونس في عصر محمد الحجوي الثعالبي (أي النّصف الأوّل من القرن العشرين) إلا من ثبتت مقدرته ونزاهته، والكلمة له. ( )
ومن العلماء المعاصرين الّذين تقلّدوا خطّة شيخ الإسلام: محمد الطّاهر ابن عاشور ومحمد العزيز جعيط من المالكية، وأحمد بيرم ومحمد بن يوسف ومحمد الدّامرجي ومحمد صالح ابن مراد ومحمد عبّاس من الحنفيّة.
وبعد استقلال البلاد تغيّرت مؤسّسة الفتوى، وأحدثت خطّة مفتي الديار التّونسيّة سنة 1957، ثمّ أدخلت عليها بعض التّعديلات، وتغيّر اللّقب من مفت للدّيار التّونسيّة إلى مفت للجمهوريّة ( ) ولا يقع اختيار إلاّ من ثبتت كفاءته العلميّة المشفوعة بأخلاق فاضلة وسمعة طيّبة لدى الخاص والعام، ولا يتقدم للإفتاء بتونس كل من هبّ ودبّ من دخلاء ومتطفّلين ومتفيهقين ...
ومن المفتين الّذين اخترت لهم بعض الفتاوى الّتي يغلب عليها طابع التيسير والاعتدال والمرونة والتوسّط ومواكبة العصر ومتغيّراته، يمكن أن نذكر:
- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (1394هـ/ 1973م)
- الشيخ محمد العزيز جعيط (1390هـ/ 1970م)
- الشيخ محمد الخضر حسين (1378هـ/ 1958م)
- الشيخ علي النّيفر (- 1985)
- الشيخ محمد الشاذلي النيفر (- 1997)
- الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة
- الشيخ محمد الهادي ابن القاضي (1400هـ/ 1979م)
- الشيخ محمد المختار السلامي
- الشيخ كمال الدّين جعيط
- الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور (1390هـ/ 1970م)
- الشّيخ محمد الصالح النيفر
- الشّيخ مصطفى كمال التارزي (1421هـ/ 2000م)
وينتمي هؤلاء إلى المدرستين المالكيّة والحنفيّة.
ومن أراد أن يتوسّع في الموضوع، عليه مراجعة الكتب التّالية:
- الفتاوى التّونسيّة في القرن 14هـ: د. محمد السويسي (مرقونة بجامعة الزّيتونة)
- فتاوى شيخ الإسلام محمّد العزيز جعيّط : تحقيق محمّد بوزغيبة ط: مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان 1994، ط 2 ، كنوز إشبيليا وابن حزم، 2001.
- فتاوى الشّيخ الإمام محمّد الطّاهر ابن عاشور: جمع وتحقيق محمّد بوزغيبة ط: مركز جمعة الماجد دبي 2004.
- فتاوى الشّيخ محمّد المهيري الصفاقسي: تحقيق مشترك: محمّد بوزغيبة ومن معه : المطبعة العصريّة تونس 2002.
- الإفتاء في تونس بعد الاستقلال : جميلة بن ساسي : مرقونة بجامعة الزيتونة 2006.
- الشّيخ علي النّيفر حياته وآثاره: محمّد المختار النّيفر: ط. تونس 2001.
- مجلّة الهداية الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى.
5. نمــاذج من منهج الوسطيّة لدى فقهائنا المعاصرين:
لقد حدّد الشّيخ محمّد المختار السلاّمي، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة، بين سنتي (1984م-1998م) شروط المفتي في سؤال وجّه إليه وفحواه:
السّؤال : هل من حقّ أيّ مسلم أن يفتي ؟
الجواب: عن هذا السؤال تكفّل به القرآن الكريم : "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذَّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمونَ" (سورة الأنبياء-7) فالفتوى ليست مرتبطة إلاّ بالعلم والمعرفة، ولا شكّ أنّه إضافة إلى العلم لا بدّ من تقوى الله فبتقوى الله يكون اطمئنان المستفتي أكمل.
أمّا سؤال من تولّى الإمامة مع جهله بأحكام الدّين، فإنّ المستفتي لا يكون بريئا كمن مرض ولم يتوجّه إلى طبيب مختصّ وتوجّه إلى رجل طيّب في مظهره ليداوي بدنه.
وأحذّر المؤمنين والمؤمنات من اعتماد أشخاص معروفين بالتّقوى، إذا لم يجمعوا إلى تقواهم المقدار العلمي الّذي يخوّل لهم الإفتاء وبيان حكم الله.
وقد اطّلعت على فتاوى عديدة بعضها يصدر في وسائل الإعلام وبعضها أخبر بها المستفتون، فكانت معظم هذه الفتاوى مخالفة لدين الله، والسّائل مقصّر لأنّه لم يسأل أهل العلم، والمسؤول إثمه كبير لإفتائه في دين الله بغير علم( ).
فالشّيخ السلاّمي وضع ضوابط الإفتاء، وحذّر من مغبّة فتاوى الأمّيين والجاهلين بالدّين ومرضى النّفوس والمتطفّلين على الدّين الإسلامي والإسلام بريء من هؤلاء براءة الذّئب من دم ابن يعقوب عليهما السّلام.
وفي ما يلي عناوين الفتاوى المختارة :
- وصول الثّواب إلى الموتى، قال بذلك جمهور شيوخ الزّيتونة.
- العناية بالمساجد أولى من العناية بأضرحة الأولياء للشّيخ محمّد الهادي ابن القاضي، مفتي الجمهوريّة الثالث (1970م-1976م)، وللإشارة فالشّيخ ابن القاضي حنفيّ المذهب.
- مركّب سياحي مكان مقبرة للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة مفتي الجمهوريّة التّونسيّة الرّابع (1976م-1984م).
- وسطيّة إخراج زكاة الزّيتون : الشّيخ علي النّيفر المفتي المالكي أيّام العهد الحسيني.
- الجمع بين الصّلاتين بسبب العمل : للشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة الثّاني (1962م-1970م).
- حول جمع وتقسيم الزّكاة للشّيخ محمّد الشاذلي النّيفر عضو رابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرّمة.
- التوسّط في تسعير البضاعة للشّيخ محمّد الصالح النّيفر المفتي المالكي أيّام العهد الحسيني.
- أكل ذبائح أهل الكتاب: جمهور شيوخ الزّيتونة في القرن العشرين.
- أكل اللّحوم المستوردة للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة.
- جواز الإحرام من جدّة للشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور، شيخ الإسلام المالكي وشيخ الجامع الأعظم وفروعه في نهاية العهد الحسيني.
- نقل الدّم مباح عند المسلمين ومحرم عند المسيحيين للشّيخ محمّد الهادي ابن القاضي.
- حكم نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع دون إمضاء.
- التسابق على العلم بعوض للشّيخ محمّد الخضر حسين المفتي المالكي بتونس ورئيس جامعة الأزهر في الخمسينات.
- القرض الوطني مباح: الشّيخ محمّد العزيز جعيط، شيخ الإسلام المالكي ومفتي الديار التونسيّة الأوّل في حكومة الاستقلال.
- حرمة إضراب الجوع ومقصد حفظ النّفس للشّيخ محمّد العزيز جعيط، أيضا.
- الاقتراض بفائض بنكيّ عند الضّرورة لسماحة مفتي الجمهوريّة السّابق الشّيخ كمال الدّين جعيط، نجل الشّيخ محمّد العزيز جعيط مفتي الديار التونسيّة الأوّل (1998م-2008م).
- الأجنّة المشوّهة للشّيخ كمال الدّين جعيط، أيضا.
أ- وصول الثّواب إلى الموتى :
قال شيوخ الزّيتونة المعاصرون بوصول قراءة القرآن للميّت وبوصول أجر ثواب الصّدقة إليه.
فالشّيخ الإمام الطّاهر ابن عاشور يقول في إحدى فتاويه: "إنّ قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميّت، وكذلك التصدّق بالطّعام على المحتاجين وكذلك ذكر لا إلاه إلاّ الله ونحوها من الأذكار الموعود بالثّواب عليها، كلّ ذلك يصل ثوابه إلى الميّت على ما اختاره جمهور المالكيّة وأئمّة المذاهب وأهل السنّة( ) . وقال بهذا الرأي أيضا الشّيخ محمّد العزيز جعيط( ) ومحمّد الخضر حسين( ) محمّد الهادي ابن القاضي( ) محمّد الحبيب ابن الخوجة( ) ومحمّد المختار السلاّمي( ). ولم يجوّز بعض الشّيوخ المعاصرين وصول ثواب قراءة القرآن للموتى مثل محمود شلتوت المصري( ) والشّيخ عبد الحميد بن باديس الجزائري( ).
فحرمان الميّت من الثّواب فيه تشدّدا ويغلق باب الأمل والرّجاء أمام الأحياء الّذين يفكّرون في مصير موتاهم من جهة، وأدلّة القائلين بإيصال الثّواب إلى الموتى أقوى من جهة أخرى، ومن راجع نصوص فتاوى شيوخ الزّيتونة سيجد قوّة الدليل ورجاحة الرأي وفصاحة البرهان وحجّتهم النّص النّبوي الشّهير الّذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وولد صالح يدعو له وعلم بثّه في صدور الرّجال".
ب- العناية بالمساجد أولى من العناية بأضرحة الأولياء:
ورد سؤال لمفتي الجمهوريّة التّونسيّة محمّد الهادي ابن القاضي (1400هـ/ 1979م) ونصّه :
"في منطقتنا وليّ صالح يكثر الأهالي من زيارته وتقديم الهدايا إلى ضريحه، وأهمّها الزّرابي الّتي أصبح أكواما، وعزم الأهالي على بناء جامع في منطقتهم، وجمعوا لذلك أموالا غير كافية، فنصحوا ببيع بعض الزّرابي والهدايا، ولكنّهم أبوا ﺎتقاء لغضب الوليّ، وخوفا من أن يسلّط عليهم عقابه بالمرض أو الموت أو غيرهما. فما قول فضيلتكم في هذه التخوّفات ؟"
الجواب : إنّ ما يقدّم من الهدايا إلى أضرحة الصّالحين لا نفع فيه للمهدي، وليس من العمل الصالح المثاب عليه، وهو لا يخرج عن ملك صاحبه، ولذلك فإنّ بيع هذه الزّرابي المهداة لضريح هذا الوليّ الصّالح للاستعانة بثمنها على عمل نافع للمسلمين بتلك الجهة، لإقامة بناء المسجد الّذي يراد إحداثه، أفضل من إبقائها مهملة لا نفع فيها للمسلمين، وإمّا خوفهم من غضب الوليّ وأن يسلّط عليهم عقابه، فهذا من الجهل بالدّين، فليس لأحد من المخلوقات قدرة على تسليط عقاب على أحد، بل ذلك لله وحده( ).
فالشّيخ ابن القاضي فنّد معتقدا وثنيّا راسخا في مخيال الشّعب التّونسي منذ عهود التخلّف، ونصح بضرورة التّعويل على الله وحده فهو المغيث والمعين في السّرّاء والضّرّاء.
ج- مركّب سياحي مكان مقبرة:
ورد سؤال للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة ونصّه :
تنوي المجموعة التّونسيّة الكويتيّة للتنمية، بعد موافقة البلديّة والدّيوان القومي التّونسي للسّياحة، إنجاز مركّب سياحي فوق أرض تقع بمفترق شارع أولاد حفوز والطيب المهيري، مع العلم أنّ جزاءا من هذه الأرض كان فيما مضى مقبرة لأهل الكتاب، وقد وقع نقل جميع رفاتها إلى مكان آخر، فهل يجوز لنا شرعا أن نبني فوق هذه الأرض ؟
الجواب : اعلموا أنّ الأرض الّتي تشيرون إليها في استفتائكم لم تبق مقبرة أصلا وليس لها حرمة المقابر بدليل قولكم : وقد وقع نقل جميع رفاتها إلى مكان آخر، فإذا صحّ ما ذكرتم جاز البناء بها، واستعمالها للصالح العام كما أشار إلى ذلك جمهور الفقهاء ( ).
رغم جوابه الموجز، فإنّ الشّيخ ابن الخوجة وضّح إمكانيّة استغلال الأراضي الّتي كانت مقابر مهما كانت ديانة المدفونين بها إذا نقل رفاتهم، تيسيرا للانتفاع بتلك الأرض، أمّا المقابر الّتي تضمّ أمواتا فلا يجوز استغلالها احتراما لجثثهم لأنّ الإنسان مكرّم حيّا وميّتا.
د- الجمع بين الصّلاتين بسبب العمل:
سؤل الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور(1390هـ/1970م):
هل يمكن لبعض العملة والموظّفين الجمع بين الظّهر والعصر جمع تقديم إذا لم يسمح لهم بأداء صلاة العصر في وقتها ؟
أجاب الشّيخ قائلا : قبل الجواب، نلاحظ أنّ الصّورة المسؤول عنها قد بدت لنا من الغرابة بمكان إذ لا نتصوّر أنّ المسلمين بلغوا هذا الهوان والمذلّة بحيث يمنعون من حرّة أداء عبادتهم، والحال أنّ ذلك حقّ غير محجور على أحد في الدّنيا، وما كان لمسلم ولا غيره أن يمنع إنسانا كائنا ما كان من القيام بواجبه الدّيني في الوقت المحدّد في ديانته لأداء ذلك الواجب.
لذلك نرجو أن ننبّهوا أبناءنا الّذين يسألون عن أداء صلاة العصر قبل وقتها لأنّ وقت صلاة العصر الّذي كتبه الله موسّع، وأنّه لا يقلّ عن ساعة ونصف في أقصر أيّام العام، وأنّه ينبغي لهم أن يسترخصوا في ترك العمل أثناء الوقت الاختياري لمدّة خمس دقائق أو نحوها، لأداء الصّلاة ثمّ العودة إلى العمل، ولا أظنّ أنّ هناك من أصحاب المصانع والمستأجرين من يمانع في هذا الأمر الضّروري البسيط، وإذا وجد من يبلغ به العناد والعدوان مبلغ المنع من ذلك، فإنّه ينبغي لهم أن يسلكوا معه ما يردعه برفع الأمر لمن فوقه أو الاحتجاج عليه، أو سلوك غير ذلك من المسالك المشروعة للعمّال الّتي يسلكونها لحماية حقوقهم، فحقّ الله أولى بأن يحمى.
وإذا فرضنا أنّ جميع الوسائل لم تجد، وأنّ العناد للدّين والاستخفاف بأهله قد بلغ المبلغ الأقصى، وأنّ العامل أو الموظّف الّذي منع من أداء الصّلاة في وقتها لم يستطع أن يحقّق معاشه من غير ذلك العمل، فهنالك يأتي محلّ النّظر في السؤال الّذي عرضتموه، والّذي يظهر أنّ هذه الحالة قد صارت حالة المعذور الّذي منع بالقهر والاضطرار من أداء الصّلاة لوقتها الاختياري، فإنّه يؤخّرها للوقت الضّروري ولا إثم عليه، أو يقضيها فائتة على الأحكام المعروفة عندكم في قضاء الفوائت.
أمّا مسألة جمع التقديم، فإنّ المذاهب الأربعة قد اختلفت فيها بعد الاتفاق على جمع الظهر والعصر بعرفة، وجمع المغرب والعشاء بمزدلفة( ).
فالمذهب الحنفي يمنع مطلقا جمع صلاتين في وقت واحد كيفما كان العذر. وقال في الكنز ( ) عاطفا على الممنوعات : وعن الجمع بين الصلاتين في وقت بعذر.
وأمّا المذاهب الثّلاثة الباقية، وهي المذهب المالكي، والمذهب الشّافعي، والمذهب الحنبلي، فإنّها تجوّز الجمع بين الصّلاتين في وقت واحد لأعذار معيّنة وبشروط مفصّلة، تفاوتت فيها المذاهب الثّلاثة ضيقا واتّساعا. فأضيقها في ذلك المذهب الشّافعي الّذي قصّر جواز الجمع على صورتين فقط، هما حالة السفر وحالة المطر في خصوص الجماعة في المسجد، كما بيّن ذلك الإمام النّووي في لباب المناهج.
ويلي المذهب الشّافعي، المذهب المالكي، فقد حدّد جواز الجمع فيه أيضا بالسّفر والمرض الّذي يخاف صاحبه الإغماء، ليلة المطر لخصوص المساجد، وتردّد ابن القاسم في الجمع بين الصّلاتين للخوف.
وأمّا المذهب الحنبليّ، الّذي هو أوسع الثلاثة في هذه المسألة، فإنّه يجوّز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما تقديما وتأخيرا على السواء في حالات منها: العذر والشغل المبيحان لترك الجمعة، كما هو منصوص عليه في دليل الطالب للشّيخ مرعي بن يوسف وشرحه نيل المآرب.
إذا تقرّر هذا، فإنّ محاولة تخريج الصورة المسؤول عنها على المذهب المالكي قياسا على المسافر كما قال خليل (776هـ/1374م): "ورخص له جمع الظهرين". وهو أمر غير بعيد ولا سيما ومرجع ذلك إلى مظنّة الضرورة والمشقّة كما ورد في كلام ابن القاسم (191هـ/806م) وتوجيه على ما ذكره القاضي أبو الوليد الباجي (474هـ/1081م).
ولكن الأولى من هذا التّخريج عندنا اعتماد منصوص المذهب الحنبلي، إذ لا مانع من الأخذ به لمن أراد أن يقلّده في الصّور المسؤول عنها، على الشّروط المعروفة في تقليد الإنسان لمذهب غير مذهبه الأصلي، وهي الشّروط الرّاجعة إلى تجنّب التلفيق المخلّ.
وإنّ تقليد الإنسان لمذهب من مذاهب الهدى هو غير مذهبه الملتزم، أولى من تخريج في مذهبه قد يكون مستبعدا لعدم ذكر فقهائه للمسألة المخرّجة، مع أنّها ليست بعيدة عن الفرضيّ عندهم، على أنّ فيما بيّناه من جواز التّأخير للوقت الضروري أو القضائي في الصّورة المسؤول عنها، ما يغني عن ذلك، فإذا كان في السائلين من لا تطيب نفسه للتأخير ويرغب في جمع التقديم، فإنّ الإفتاء له في ذلك على المذهب الحنبلي لا مانع منه( ).
فالشّيخ الفاضل يسّر لأصحاب الأعذار الشرعيّة الجمع بين فريضتين اقتداء بالمذهب الحنبلي، كما حذّر من التلفيق بين المذاهب أو الخروج عن المذهب والإفتاء بأحكام غيره لمن له قدم راسخة نحو العلوم الشّرعيّة تؤهّله للاجتهاد خارج مذهبه.
6. وسطيّـة إخـراج زكــاة الزّيتــون:
سؤل الشّيخ علي النّيفر (-1405هـ/1985م) عن رجل تحصّل على غلّة زيتون تبلغ نصابا، وأراد أن يخرج زكاته دراهم بمقدار قيمة ما وجب عليه، فهل يجزئه ذلك في المذهب المالكي أم لا ؟
فأجاب:إنّ مذهب الإمام مالك عدم إجزاء ذلك، فلا بدّ من إخراج الزّكاة من عين ما وجبت فيه، لأنّ الشّارع قصد تشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال، ولذا علّق الزكاة بالأعيان، غير أنّه في صورة الحال، له الخيار بين أن يخرج العشر زيتا أو حبّا( ).
فالشّيخ علي النّيفر جوّز إخراج نصاب الزّيتون من الحبّ أو الزّيت تيسيرا وتقيّدا بأصول مذهبه بناء على الخطّة الّتي شغلها يوم صدور الفتوى وهي مفتي مالكي في الدائرة المالكيّة بالمحكمة الشّرعيّة، ولا يجوز له أن يفتي على مذهب غيره، علما وأنّ المحكمة الشّرعيّة أيّام العهد الحسيني كانت تضمّ دائرتين شرعيّتين : دائرة مالكيّة ودائرة حنفيّة، وكلّ مفت مطالب بتقديم الفتوى على مقتضى مذهبه.
7. حول جمع وتقسيــم الزّكــاة :
بيّن الشّيخ محمّد الشاذلي النّيفر(-1997م) في إحدى دورات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكّة بأنّ المذهب الحنفي يرى شرطيّة التّمليك عند صرف الزّكاة، ومن هنا اقتصر هذا المذهب في مصارف الزكاة على الأفراد لأنّهم هم المتأتّي منهم التّمليك، وأمّا مشاريع التنمية الاجتماعيّة أو الأعمال الخيريّة الاجتماعيّة الّتي ملكيّتها جماعيّة وليست فرديّة، فلا يمكن صرف الزّكاة إليها.
وأوضح الشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر أنّ المذهب المالكي لا يرى شرطيّة التّمليك مثل المذهب الحنفي ولذلك يجوّز قضاء دين الميت، ثمّ تطرّق إلى مسألة التلفيق بين المذاهب وإلى شروطها وهي روح الوسطيّة في الفقه الإسلامي لأنّ الاختلاف المذهب رحمة.
قال الشّيخ الشّاذلي في فصل حكـم التّلفيق في المذهبين الحنفـي والمالـكي، وجـزم ابن نجيـم (970هـ/1562م) في رسالته في بيع الوقف بغبن فاحش، بأنّ المذهب جواز تقليد غير من قلّده.
وجاء في المذهب المالكي تحرير هذه المسألة : في الشّبْرَاخِيتي :
يمنع تتبّع رخص المذاهب وفسّرها بما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النّص وجليّ القياس، وقال غيره إنّ المراد بتتبّع الرخص رفع مشقّة التّكليف بإتباع كلّ سهل، وفيه أيضا امتناع التّلفيق... إلى أن قال : والصحيح جوازه وهو فسحة. وبالجملة في العبادة الواحدة طريقتان :
- المنع وهو طريقة المشارقة،
- والجواز وهو طريقة المغاربة ورجّحت.
اتّضح أنّ من قلّد مذهبا لا يجوز له أن يأخذ من غيره من المذاهب فلا حرج في ذلك.
وبيّن الشّيخ الشّاذلي أنّ الشّريعة الإسلاميّة مبنيّة على التّيسير لا على التّعسير، وليس هذا دعوة إلى
التحلّل ونقض الشّريعة، وإنّما يكون بالميزان الشّريعي، واشتهد بما ذكره صاحب عمــدة التّحقيق البنّانـي (1194هـ/1780م) قوله :
"إنّ ضابط جواز التّلفيق وعدم جوازه هو أنّ كلّ ما أفضى إلى تقويض دعائم الشّريعة والقضاء على سياستها وحكمها فهو محظور".
وأمّا إذا كان التّلفيق يؤيّد دعائم الشّريعة وما ترمي إليها حكمتها وسياستها الكفيلتان بسعادة العباد في الدّارين تسير عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات وهو المطلوب.
ثمّ عاد الشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر إلى مسألة التّمليك عند صرف الزّكاة وقال : "وإذا نظرنا إلى غير المذهب الحنفي في عدم اشتراط التّمليك بالصّورة الّتي اعتمدها الحنفيّة، نرى ذلك ممّا ترمي إليه حكمة الشّريعة لنفع الفقراء والمساكين بصورة أجدى وأنفع، لأنّ الأعمال الخيريّة اجتماعيّة منفعتها مسترسلة وأشمل، فهي من السّياسة الحكيمة الشّرعية.
ولو قايسنا بين تعميم ما يعطى من الزّكاة للفقراء لانطباق الشّرط عليهم، وبين إيجاد مؤسّسات اجتماعيّة وأعمال خيريّة، لاتّضح أنّ منفعة الفقراء والمساكين تكمن في هذه المؤسّسات، لأنّ ما يأخذونه قد يصرفونه في أمور تافهة لا تعود عليهم بالنّفع، بخلاف ما تدرّه عليهم المؤسّسات القائمة على مصالحهم مع ما في ذلك من إيجاد أعمال لهم يتقاضون منها أضعاف ما يأخذونه، ومن تكوين أعمال فلا يبقون عاطلين وهذا ما دعا إليه الشّرع الحكيم( ). فالشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر رحمه الله يقدّم الطّرح المرن معتمدا على المصلحة المرسلة وهي من أبرز أصول المذهب المالكي.
8. التوسّط في تسعير البضاعة:
سئل الشّيخ محمّد الصالح النّيفر عن تألم النّاس وتحرّجهم من كثرة ارتفاع الأسعار خصوصا في المواد الضّروريّة، وتساءلوا عن حكم الله في ذلك ؟
فأجاب : إنّ تسعير أولي الأمر لبعض ما يباع في السّوق بثمن يمنع تجاوزه من المسائل الخلافيّة لدى أئمّة الفقه الإسلامي، ضمنها الإمامان أبو حنيفة وأحمد ذهابا مع ظاهر الحديث الّذي رواه الصحاح عن أنس أنّ قال : "غلا السعر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله، قد غلا السّعر، لو سعّرت لنا ؟ فقال : إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإنّي لأرجو أن ألقى ربّي، وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال."
ولذا قال الإمامان التّسعير حرام، وقال مالك: إنّه يجوز للإمام التّسعير، وفي وجه للشافعيّة جواز التّسعير في حالة الغلاء. وقال ابن العربي المالكي (478هـ/1085م): الحقّ جواز التّسعير وضبط الأمر على قانون ليس فيه مظلمة لأحد الطرفين، وما قاله المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وما فعله حكم، لكن على قوم صحّت نيّتهم وديانتهم، أمّا قوم قصدوا أكل مال النّاس والتّضييق عليهم، فباب الله واسع وحكمه أمضى.
وفي كتب الفقه المالكي الّتي تقول بجواز التّسعير: إنّ للإمام إخراج المتجاوز للسّعر من السوق، وتعزيره، أو بما يبلغ به حدّا شرعيّا.
ويفيد كلاّ منهم أنّ تجاوز السّعر مكروه، والأظهر أنّها كراهة تحريم، وهذا بالنّسبة للبائع فقط ( )
فالشيخ محمد الصالح النّيفر يبيح التّسعير أخذا بالأحوط ومراعاة للتّسعير بين المتبايعيْن.
9. أكل ذبائح أهل الكتاب:
السؤال: ورد سؤال للشيخ محمد عبده (1323 هـ/1905م) في بداية القرن العشرين، مفاده أنّ ذبح أهل الترنسفال مخالفٌ، لأنّهم يضربون البقر بالبَلْطِ، وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية، والغنم يذبحونها من غير تسمية، هل يجوز ذلك ؟
الجواب: أجاب الشيخ محمد عبده بحلّيّة أكل ذبائح أهل الكتاب، وأيّده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في ذلك، وقال إنّ – بقاء ذبائح أهل الكتاب يكون على أربع قواعد:
الأولى: فتوى أبوبكر بن العربي الّتي ذكرها عند شرح قوله تعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيَّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذيِنَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" (سورة المائدة: 5) من كتاب: أحكام القرآن.
الثّانية: إنّ هذه الفتوى بناء ابن العربي على قولي محمد بن عبد الحكم (214 هـ/829م) وعبد الله بن وهب (- 197 هـ) من المالكيّة.
الثّالثة: وقع الاستنباط بالقاعدة الصولية المقررة عند الحنفية الّتي تقتضي أنّ العام الوارد بعد الخاص يكونُ ناسخا له، ومعنى ذلك أنّ عموم طعام أهل الكتاب الوارد بعد ذكر المحرّمات السابقة في الآية: "حُرَّمَتْ عَليْكُمْ المَيَّتةُ والدّمُ" يشبه ورود النسخ بعد النصّ.
الرّابعة: تخريج الآية على أنّ طعام أهل الكتاب معْطوف على قوله تعالى: "اليوْمَ أحِلّ لَكُمْ الطّيَّباتُ". وعطف الجملة على الجملة دليل على أنّ طعام الّذين أوتوا الكتاب حلالٌ متى لم يكن على شروطنا ( ).
ومن شيوخ الزّيتونة الّذين قالوا بحليّة أكل ذبيحة النصارى الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ( ) والشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة ( ).
وخالف الجميع الشيخ محمد الهادي ابن القاضي، وقال بعدم جواز أكل ذكاة الكتابيّين ( ).
فجمهور شيوخ الزّيتونة أخذوا الحلّ الوسط وراعوا ظروف المسلم الّذي يعيشُ مع النصارى أخذا بظاهر النّص دون تشدّدٍ أو تأويلٍ بعيدٍ. وإباحه أكل اللّحوم المستوْردة الّتي قال بها الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة يندرج ضمن هذا الفكر الزّيتوني التّوسّطي.
10. أكل اللّحوم المستوردة:
السؤال: تُقدَّمُ لأبنائنا في المبيتات (لحوم مستوردة)، وقد تسرّب إلينا الشك في حليّة أكلها، باعتبار عدم التّحقق من ذبحها حسب الشّريعة الإسلاميّة، وقد نهى الله تعالى عن أكل الميتة، فقال: "حُرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ". كما نهى عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه في قوله عزّ وجلّ: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ". لذلك رفعنا أمرنا إليكم لتوضيح الموقف وطمأنة النفوس.
الجواب: إنّ الله أحلّ لنا بهيمة الأنعام، وكلّ حيوان مقدور على ذبحه بشرط التذكية، وهي قطع الأوداج كلّها أو بعضها في الحلق حسب اختلاف المذاهب، والأوداج أربعة: الحلقوم والمريء والعرقان اللّذان يحيطان بهما، وكلّ ما أنهر الدمّ وأفرى الأوداج تصحّ به التذكية ما خلا السنّ والظفر، لحديث حذيفة.
ولا تصح الذكاة إلا من مسلم، لأنّ التذكية تحتاج إلى دين ونيّة، وهي بذلك ضرب من ضروب العبادة، ورخّص الشارع في أكل ذبيحة أهل الكتاب بقوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ". ولأنّ أهل الكتاب – وهم اليهود والنّصارى – على دين إلاهي يحرّم الخبائث ويتّقي النجاسة، ولهم في شؤونكم أحكام مضبوطة متّبعة، لا يُظنّ بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلاهي، بخلاف المشركين والمجوس وعبدة الأوثان، فقد ورد النّهي عن أكل ذبائحهم. أمّا أهل الشرك، فلقوله تعالى: "وَمَا اُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ" وقوله عزّ وجلّ: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ".
وأمّا المجوس فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: "سنّوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم." فلم تصح ذبيحة الوثني لأنّه لا يقرّ على دينه وكذلك المرتدّ.
ومن المعلوم أن ما يؤتى به من هذه اللّحوم مذبوحا ممن هو أهل للذبح بطريقة يتحقّق معها إنهار الدّم، جائزا لنا أكله. قال الشربيني في الإقناع: "ولو أخبر فاسق أو كتابيّ أنّه ذبح هذه الشّاة مثلا حلّ أكلها لأنّه من أهل الذّبح.
أمّا شرطك التّسمية، فمتفق عليه – في الجملة – عند سائر المذاهب ما عدا الشّافعي. ويلزم عند التذكير والقدرة لقوله جلّ وعلا: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ".
والأظهر أنّ المقصود بهذه الآية، النّهي عن أكل متروك التّسمية عمدا مع القدرة، لما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمّي حين يذبح، فليسمّ وليذكر اسم الله ثمّ ليأكل".
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّهم قالوا: "يا رسول الله إنّ قوما هم حديثو عهد بشرك، يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروه، قال سمّوا أنتم وكلوا."
وأخرج الدارقطني أيضا: عن أبي هريرة قال: سأل رجل النّبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل منّا يذبح وينسى أن يسمّي الله، قال: اسم الله على فم كل مسلم.
وقد اتفق القائلون باشتراط التّسمية، على أنّ المسلم النّاطق العالم بوجوبها إذا تركها عمدا تحرم ذبيحة. وذهب الّذين لا يشترطون التّسمية في حق الكِتابي، إلى أنّ قوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" جاء مخصّصا لعموم قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ".
وقال المالكيّة: لا تشترط في حق الكتابي التّسمية لأنّه أباح ذبائحهم، وهو يعلم أنّ منهم من يترك التّسمية. قال ابن العربي ( ). إنّ الله حرّم ما لم يسمّ الله عليه من الذبائح، وأذن في طعام أهل الكتاب، وهم يقولون: الله هو المسيح بن مريم وأنّه ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. فإذ لم يذكروا اسم الله سبحانه أكل طعامهم، وإن ذكروا فقد علم ربّك ما ذكروا، وإنّه غير الله، وقد سمح فيه، وإنّما حرّم الشارع ذبحا يُذكر عليه اسم غير الله تصريحا، فأمّا ما يُقصد إليه فيصيب قصده فهو الّذي لا كلام فيه، وأمّا الّذي يسمّيه فيخطئ قصده فذلك الّذي رخّص فيه.
هذا وقد أكل النّبي صلّى الله عليه وسلّم من الشاة المسمومة المشويّة الّتي أهدتها إليه اليهودية، ولم يسألها عن ذبيحتها أهي ذبيحة المسلم أم اليهودي، وذُكر اسم الله عليها أم لم يُذكر، وبهذا أخذ أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس، والزهري والربيعة والشعبي ومكحول.
وممّا تقدّم عرضه يُعلمُ أنّ اللّحوم المستوردة من أوروبا وغيرها من البلاد، إمّا أن تكون صادرة عمّن هو أهل للذبح، من مسلم أو كتابي يهودي أو نصراني، أو لا تكون، فإن كان الّذين يتولّون تصديرها وتسويقها مسلمين، فلا غبار عليه وأكلها حلال، وإن كانوا كتابيّين فكذلك لصريح قوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ"، ولا يحرم أكل هذه اللّحوم المستوردة من البلاد الّتي أغلب أهلها مسلمون أو أهل كتاب إلا إذا تأكّد لدينا أنّها ميّتة لم تقع تذكيتها تذكية شرعيّة.
وإن كان أغلب البلد ممن لا تحلّ ذكاته كالمشركين والزّنادقة والمجوس ونحوهم، فإن علم أنّ ذابح الحيوان مسلم أو كتابي ولو بطريق الإخبار، حلّ اللّحم المستورد لتذكيته ممن هو أهل للذبح كما تقدّم، وإن لم يحصل العلم بذلك فلا تحلّ.
ثم اللّحوم المستوردة يحقّ أكلها متى عُلم أنّها لحم بقر أو غنم أو نحوهما ممّا يحلّ شرعا، فإن علم أنّها لحم خنزير أو نحوه ممّا لا يحلّ أو جهل نوعها وكان محتملا لذلك لم تحلّ، لورود النّصوص القطعيّة بحرمتها.
فالشيخ ابن الخوجة يسرّ للجالية المسلمة الّتي تعيش في المهجر أن تأكل اللّحم الّذي يباع هناك ما لم يكن لحم خنزير، كما أباح للمسلمين المقيمين ببلدانهم أكل اللّحوم المستوردة الّتي تأتي من البلاد الغربية الّتي تعتنق الديانة المسيحيّة ( ).
11. إحرام المسافر للحجّ بالطّائرة:
سُئل الشيخ الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور عن مكان إحرام المسافر للحجّ عن طريق الطّائرة.
الجواب: تردّد النّظر بين إلحاق حكم راكب الطّائرة بحكم راكب السّفينة، إذا كان محلّ نزوله بأرض الديار. متجاوزا ميقات الإحرام المعيّن لأهل أفُقه، فروى ابن نافع عن مالك "لا يُحرم الحاج في السّفينة"، وهذا يحتمل وجوب النّزول إلى الميقات وفيه مشقّة ينبغي نفيها عن الدّين، ويحتمل أن يريد أنّه يرخّص له تأخير الإحرام إلى النّزول إلى الأرض، وروى في النّوادر عن محمد بن الموّاز (269 هـ/882م) قال مالك: " من حجّ في البحر منى أهل مصر وشبههم يُحرم إذا حاذى الجحفة، وظاهره أنّ ذلك حكم إحرامه، ولا يجوز له تجاوز سمت المحاذاة غير محرم بالنيّة والتجرّد من مخيط الثّياب.
وفصل سَنَد فقال: إن كان المسافر في البحر محاذيا للبرّ مثل السّفر في بحر القلزم، أحرم إذا حاذي ميقات أُفُقه، لأنّه يمكنه النّزول إلى البرّ ليُحرم من ميقاته – أي بدون مشقّة، لأنّ البرّ غريب، ويجوز تأخير الإحرام للمشقّة لكن عليه هدي، لأنّ التّأخير رخصة، والرّخصة تدفع الإثم في التّجاوز ولا تُسقط وجوب الهدي.
وأمّا من سافر في بحر لا يحاذي الشواطئ مثل بحر الهند وبحر اليمن وبحر عيذاب، فيجوز له تأخير الإحرام ولا هدي عليه، لأنّه إذا جاز له التّأخير، انتفى وجوب الهدي حتى يدلّ دليل على وجوب الهدي مع جواز التّأخير ولا دليل عليه، فلا يُحرم حتى يصل إلى البرّ إلا أن يخرج على البرّ أبعد من ميقات أُفقه.( )
فالشيخ ابن عاشور رخّص للحجيج من مصر وشمال إفريقيا عبر الطّائرة أن يحرموا عند النّزول بمطار جدّة أي بعد الميقات، وذلك لعسر الإحرام بالطّائرة في الجو وذلك لسرعة الطّائرة عندما تمرّ فوق الميقات، ولعنت إحرام ركاب الطّائرة من النّساء والرّجال وهم بداخلها، واشترط الشيخ الإمام لجواز تأخير الإحرام الهديْ، لكن هل يدفع حجيج اليوم الهديْ وهل أرشدهم المعنيّون بالأمر بذلك ؟
12. نقل الدّم مباح عند المسلمين ومحرّم عند المسيحيّين:
سُئل الشيخ محمد الهادي ابن القاضي مفتي الجمهوريّة التّونسيّة في السبعينات عن نقل الدّم الّذي بلغ السائل أنّه محرّم عند المسيحيّين حتى لإسعاف المرضى الّذين استنزفت الأحداث دماءهم، فأراد معرفة حكم الدّين الإسلامي في الموضوع.
أجاب الشيخ ابن القاضي قائلا: "إنّ شريعة الإسلام تنظر إلى النفس البشرية نظرة تكريم، ولذلك جعلتها أعزّ ما في الكون وأشرف ما خلق الله. ودعت المؤمنين إلى التّعاون على حفظ مقوّمات الحياة، ببذل كامل ما في الوسع لإنقاذ الآخرين، ومدّهم بما يحتاجون إليه، وتتوقّف عليه سلامتهم وحياتهم خاصة في حالة المرض المخوف، وجاء في الحكمة القرآنيّة: "وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
وكان الدّم من أبرز ما أظهره الطبّ الحديث لإنقاذ المرضى، في حالات خاصة من أطوار المرض، وبالأخصّ عند إجراء عملية جراحيّة، أو عند الإصابة بنزيف دمويّ، أو جرح خطير يفقد معه الشّخص مقدارا هامّا من مادّة الحياة الضروريّة هذه بحيث تكون حياته مهدّدة إن لم يقع حقنه بكميّة من الدّم البشري، ولذا قرّر الطبّ أنّ هذه العمليّة تكون ضروريّة في هذه الحالات، لإنقاذ هذه النّفس البشريّة من هلاك محقّق.
ففي مثل هذه الحالة ينبغي حقن المريض بهذه المادّة الضروريّة للحياة، ويكون حكمه في الشّريعة الإسلاميّة أنّه إذا توقف شفاء المريض وإنقاذ حياته على نقل الدّم إليه من شخص آخر، بأن لا يوجد ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته، فإنّ نقل هذا الدّم إليه، وكذلك إذا توقفت سلامة العضو، جاز نقل الدّم إليه.
وهذا الحكم كقيّد بما إذا لم يترتّب على هذه العمليّة ضرر بمن ينقل منه الدّم، والمرجع نحو ذلك إلى رأي أهل الاختصاص من الأطباء المباشرين للمريض ( ).
وقضيّة نقل الدّم قد تكلّم عن جوازها الشيخ جعيط منذ الأربعينات من القرن الماضي ( ).
13. حكم نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع:
تقدم سؤال لأسرة الهداية ونصّه: "فقدت في حادث مرور كميّ هامّة من دمي، وتطوّع أقاربي ممّن لهم فصيلة دمي بكميّة من دمائهم، وأمكن بعناية الله وتطوّعهم إنقاذ حياتي، وكانت ابنة عمّي ضمن هؤلاء، وبعد الشّفاء التّام والحمد لله رغبت في الزواج بها، فأثار أحدهم شبهة تتمثّل في أنّ نقل الدّم كالرّضاع تترتّب عليه الحرمة، ورغم أنّي غير مقتنع بذلك، فقد فضّلت أن أستنير برأيكم في الموضوع، فما هو؟
الجواب: إنّ نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع لعدّة اعتبارات منها:
- إنّ التّحريم بسبب الرّضاع ورد فيه نص صريح بالكتاب والسنّة، فقد قال الله تعالى: "وَأمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مَّن الرَّضَاعَةِ" وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب"، أمّا التّحريم بنقل الدّم، فلم يرد فيه نص بالكتاب ولا السنّة.
- لا يصحّ قياس الدّم على اللّبن لانعدام الشُّبه بينهما في التركيب والوظيفة، فاختلاف التّركيب واضح لا يحتاج إلى بيان، وأمّا اختلاف الوظيفة فالدّم ينقل الغذاء والهواء، واللّبن غذاء خالص يوفّر للجسم النّماء.
- إنّ ثبوت بنوّة الرّضيع للمرضع ناشئ عن المساهمة في تكوين جسمه باللّبن كتكوّنه في الرّحم عند الحمل، وفي رعايته، وأمّا ثبوت قرابة الدّم فلاعْتِبارها كقرابة النّسب، بخلاف نقل الدّم فلا شيء فيه من ذلك، وقد يستفيد الإنسان بدم من يجهله، وهذا ما تقوم به بنوك الدّم في العصر الحاضر ( ).
هذه فتوى تونسيّة أخرى تبيح نقل الدّم وتؤكّد حرص شيوخ الزّيتونة على اعتماد جانب التّيسير والمرونة عند الإجابة عن الفتاوى الّتي تَرِدُ إليهم وفي خصوص المسائل المستجدّة الّتي لم يتناولها الفقهاء القدامى.
14. التّسابق على العلم بعوض:
سُئل الشيخ محمد الخضر حسين: هل يجوز للرجل أن يُعيّن جانبا ليأخذه من فاق غيره في تحقيق مسألة علميّة؟
الجواب: ورد في الشّريعة جواز المسابقة على الخيل بعوض من غير المتسابقين تدريبا على الحروب، وترغيبا في الأخذ بالاستعداد لها عند الحاجة.
وهذه العلّة يصحّ إجراؤها في مسألتنا، بل التّرغيب في العلم والتّنافس فيه أكيد، ولا سيما عند ضعف الهمم في طالبه، وقلّة الاعتناء به من حيث إنّه فضيلة.
وعليه فما يقع الآن من المناظرات لإحراز مراتب التّدريس والامتحانات للفوز بجوائزها سائغ لا بأس به ( ).
تندرج فتوى الشيخ محمد الخضر حسين ضمن فتاوى المسابقات الّتي كثر الجدل فيها هذه الأزمان، وخصوصا عندما تنوّعت وتشعّبت وخصّصت لها برامج خاصّة عبر الهوائيّات، لكن ما أباحه الشيخ الخضر حسين هو التّسابق على الاستزاد في العلم وعلى التّنافس الشريف من أجل إحرازه، أمّا التّسابق في لعب الميسر فهذا لا تبيحه الشريعة الإسلاميّة إطلاقا ( ).
15. التّسابق على العلم بعوض:
دعت الحكومة التّونسيّة بعد الاستقلال سنة 1957 إلى الحصول على قرض وطني لتجهيز البلاد صناعيا ويحقق لها الازدهار الاقتصادي، وجعلت له فائضا سنويّا، وأمام تحرّج التّونسيّين الّذي اعتبروا هذا الفائض ربًا محرّمًا، بيّن الشيخ جعيط في فتوى له أنّ الغرض من القرض الوطنيّ هو تجهيز البلاد تجهيزا صناعيّا الأمر الّذي يُقلصُ ظلّ البؤس، ويُبْعدُ شبح البطالة، ويُمكّن أبناء البلاد من بناء مصانع بأجور تقيهم شرّ الخصاصة.
ثمّ بيّن الشيخ جعيط مقاصد التّجهيز الصناعي وقال: "وبهذا الاعتبار يكون القرض الوطنيّ المحقّق لهذه الأهداف السّامية من القرض في سبيل الله، إذ ليس الجهاد خاصة كما يظنّه الكثير، بل هو ما يرْضاه الله ويحِثّ عليه، ولا ينبغي أن يكون في صدر المؤمنين حرج من الاكتتاب في القرض الوطنيّ، بعلّة أنّه قرضٌ بزيادة، وهو مُجمعٌ على تحريمه لأنّ الزيادة لا يشترطها المقرض، ولا هو مجبور على تسلُّمها، بل هو متمكّنٌ من التّنازل عنها للحكومة، والرّجوعُ عند الاقتضاء بمقدار ما أقرضه، وإذا لم يرجع إلى اليدِ المقرِضة أكثر ممّا أقرضت، بقي القرض سالما لا يُكدّرُ صفوه، وانتفي توهّم المنْعِ، واكتسى حلّة القرض ا
في الفتاوى التّونسيّة المعاصرة
د/ محمد بوزغيبة
المعهد العالي لأصول الدّين، جامعة الزّيتونة.
1. السّنــد الفقهي التّونسي :
يعود السّند الفقهي التّونسي إلى الصحابة الّذين شاركوا في فتح إفريقيّة (تونس)، غير أنّ ظروف الفتح، وما كان من ارتدادات الأفارقة، لم تساعد على استقرار بعض الصحابة للتّعليم والتّفقّه في الدّين، ومع ذلك نجد من تتلمذ للصحابة من تونس: كعكرمة بن عبد الله البربري (105هـ/723م) الّذي أخذ التّفسير عن عبد الله بن عباس ( ).
وفي عهد التّابعين ارتحل إلى المشرق علماء الجيل الأول من أهل إفريقيّة لزيادة التّلقّي من علماء المشرق، ومن بينهم عبد الرّحمان بن زياد بن أنعم (161هـ/777م) الّذي أقام بمكة مدة ودرّس بها، وكانت له فيها مجالس مشهورة حتى أقبل عليه سفيان الثوري وأخذ عنه، ثم رجع إلى القيروان ودرّس بها ( )، وخالد بن أبي عمران التجيبي (167هـ/783م) الّذي تلقى العلم عن التّابعين من مدرسة عمر بن الخطّاب، فأخذ عن عبد الله بن سالم بن عمر وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعن سليمان بن يسار المدني ( ).
ومن علماء إفريقيّة الأوائل أيضا: أبو عمران موسى اللّخمي (163هـ/779م) وعبـد الله بن فـروخ (176هـ/792م) الّذي عاصر الإمام مالك بن أنس وغيرهم كثير.
هذه الفئة العلميّة حملت العلوم الشرعيّة إلى أهل تونس الّذين كانوا متعطّشين إلى هذه العلوم، ويدلّ على هذا ما قاله التّجيبي لشيخيه عبد الله بن سالم والقاسم بعد أن حمل مسائل من بلده تونس، قال: "إنّا بموضع جفاء وإنّهم حمّلوني هذه المسائل وقالوا لي: إنّك تقدم المدينة وبها أبناء أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فسلهم لنا، وإنّكما إن لم تفعلا كانت حجّة لهم فما شئتما ؟ فقال القاسم بن محمد: "سل، فسألهما فأجاباه فيما سألهما فيه ( ).
وبعد ظهور المذهب المالكي، رحل إلى إمام دار الهجرة على بن زياد وعبد الرّحمن بن أشرس أسد بن الفرات، ورجعوا إلى أفريقيّة بعلم غزير، فدوّنه وهذّبه وراجعه على عبد الرّحمن بن القاسم – أبرز تلاميذ الإمام ملك – الإمام سحنون صاحب المدوّنة الكبرى الّتي تعتبر المصدر الأساسي الأوّل للمذهب المالكيّ.
2. نفــوذ المذهب المالكي بتونس
تقبّل أهل تونس المذهب المالكي واعتنوا بالمدوّنة الكبرى عناية فائقة، وكانوا لا يلتفتون إلى غيرها، إلى أن جاء البراذعي وقام بتهذيب المدوّنة وحذف المكرّر منها، وكان المعوّل عليها في كامل المغرب الإسلامي.
قال القاضي عياض (544هـ/1159م) في مداركه: "ظهرت بركة هذا الكتاب على طلبة الفقه وتيمّنوا بدرسه وحفظه وعليه معوّل أكثرهم بالمغرب والأندلس."
ثمّ ألّف عبد الله بن زيد القيرواني (386هـ/996م) الرّسالة الّتي نالت شهرة بالغة وانتشرت في سائر بلاد المسلمين، وبيعت بمثل وزنها ذهبا مثلما ذكر أبو بكر الأبهري البغدادي.
وتواصل السّند الفقهي التّونسي عبر أبي الحسن القابسي وسعيد بن الحدّاد (302هـ/914م) وأبي الحسن الخمي (478هـ/1085م) والإمام المازري (536هـ/1141م).
ولما ألّف خليل بن إسحاق الجندي المصري (776هـ/1277م) مختصره الفرعيّ المالكيّ اعتمد على ثلاثة فقهاء من أهل الترجيح من تونس، وهم اللّخمي والمازري وأبو بكر الصقلي، أما الرّابع فهو ابن رشد الجدّ الأندلسي.
قال السّجلماسي في متنه وهو يتحدّث عن المختصر الخليلي:
فاللخميّ تاج ماز فضـلا أبو بكر تفضّل نال أوّلا
وإن أبا الوليد ثوى كريما ومازريّ تراه وإن دليلا
ولكلّ موضوعيّة، فإنّ مصادر المذهب المالكي الثلاثة تونسيّة الأصل، وأعني بها المدوّنة والرّسالة والمختصر الّذي عوّل فيه خليل على علماء من تونس، فهو يضمّ إذا السّند الفقهيّ التّونسي.
ثم تواصل السّند الفقهي المالكي عن طريق أبي إسحاق بن عبد الرفيع (733هـ/1332م) ومحمد بن عبد السلام الهواري (837هـ/1433م) وقاسم عظوم القيرواني هذا في العهد الحفصي ...
كما اتّصل السّند الفقهيّ التّونسي على يد عائلات علميّة كآل ابن عاشور وآل بيرم وآل النّيفر وآل صدّام وآل الشريف وآل جعيط في العهد الحسيني،
وعلى يد فقهاء أجلاّء بلغوا مرتبة التّرجيح كالشيخ إسماعيل التميمي (1832هـ/1913م) والشيخ محمد السنوسي الجدّ (- هـ/1879م) والشيخ إبراهيم الرياحي (1267هـ/ 1850م) والشيخ سالم بوحاجب (1344هـ/ 1925م). وعن هؤلاء ظهر فقهاء القرن 14هـ - 20 ميلادي الّذين دأبوا على الإفتاء اعتمادا على الأيسر والأوفق والأصلح و أخذا بالتوسّط والاعتدال ومراعاة للعصر ومستجدّاته.
3. نظريّــة الفتــوى في تونــس:
الفتوى: هي الإخبار بحكم الشرع لا على وجه الإلزام، وخرج بالقيد الآخر حكم القاضي، لأنّه مبنيّ على الإلزام عند من يرى ذلك ( )، وذهب القرافي إلى التّوافق الإلزامي بين القضاء والتوى. قال في فروقه: "إنّ الفتوى والحكم كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى، ويجب على السّامع اعتقادهما، وكلاهما يلزم المكلّف من حيث الجملة، لكنّ الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، والحكم إخبار وإلزام من قبل الله تعالى" ( ).
قال التّسولي (1258هـ/1842م) في البهجة: "فإلزام الفتوى إلزام ديانيّ من وجدان الإنسان، بينما إلزام القضاء مبنيّ على القوّة والقهر حماية للحقوق وضمانا لاستقرار المعاملات، وأمّا العبادات فلا سلطان للقضاء عليها إلا ما تعلّق منها بمصلحة دنيويّة ( ). وإنّ الحقيقة الواقعية هي منطلق الموازنة بين إخبار المفتي وأحوال المستفتي. ويؤيد هذا المنحى قوله صلّى الله عليه وسلّم: استفت قلبك، البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصدر وأن أفتاك النّاس وأفتوك ( ).
قال ابن قيّم الجوزيّة: "لا يجوز العمل بمجرّد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: "فاستفت نفسك وإن أفتاك النّاس وأفتوك." فيجب عليه أن يستفتي نفسه أوّلا، ولا تخلّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أنّ الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "من قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من نار."
والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظنّ المستفتي أنّ مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أنّ الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردّد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسّنة، أو لأنّه معروف بالفتوى بالحيل والرّخص المخالفة للسّنةّ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النّفس إليها، فإن كان عدم الثّقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيا، وثالثا حتّى تحصل الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة ( ).
ومن خصائص الفتوى الّتي ذكرها فقهاء الإسلام:
- أنّها مؤسّسة على الإخبار بحكم شرعيّ.
- أنّها متعلّقة بالأحكام الشرعيّة.
- أنّها مبنيّة على السّؤال.
- أنّ لها تعلّقا بالاعتبار الدّياني.
والجدير بالملاحظة أنّ الفتاوى والنّوازل والمسائل والأجوبة تطلق على مسمى واحد وهو ما يجيب به المفتي عن سؤال ( ).
4. الفتـــوى في تونـــس:
تقلّد كبار الفقهاء بتونس الفتوى بصفة فرديّة أو بصفة جماعيّة، كان ذلك إمّا بصفة رسميّة أو بصفة خاصّة، ويمرّ المفتي بالدّيار التّونسيّة بدرجات ثلاث: مفتي المذهب، كبير أهل الشورى، باش مفتي، شيخ الإسلام.
ومن بين الفقهاء الّذين أطلق عليهم لقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (728هـ/1327م) والعزّ بن عبد السّلام (660هـ/1261م) ومحمد بن عرفة (803هـ/1400م).
وكان أهل العلم بتونس يطلقون هذا اللّقب على من ينفرد بالتفوّق بينهم من شيوخهم، وأوّل فقيه لقّب بشيخ الإسلام في تونس هو الشيخ علي الصوفي سنة 1133. أمّا من تولاّها بصفة رسميّة فهو الشيخ محمد بيرم الرّابع في القرن 13هـ / 19م. ( )
أمّا الفتوى المعاصرة، فإنّه لا يتصدّر إليها بتونس في عصر محمد الحجوي الثعالبي (أي النّصف الأوّل من القرن العشرين) إلا من ثبتت مقدرته ونزاهته، والكلمة له. ( )
ومن العلماء المعاصرين الّذين تقلّدوا خطّة شيخ الإسلام: محمد الطّاهر ابن عاشور ومحمد العزيز جعيط من المالكية، وأحمد بيرم ومحمد بن يوسف ومحمد الدّامرجي ومحمد صالح ابن مراد ومحمد عبّاس من الحنفيّة.
وبعد استقلال البلاد تغيّرت مؤسّسة الفتوى، وأحدثت خطّة مفتي الديار التّونسيّة سنة 1957، ثمّ أدخلت عليها بعض التّعديلات، وتغيّر اللّقب من مفت للدّيار التّونسيّة إلى مفت للجمهوريّة ( ) ولا يقع اختيار إلاّ من ثبتت كفاءته العلميّة المشفوعة بأخلاق فاضلة وسمعة طيّبة لدى الخاص والعام، ولا يتقدم للإفتاء بتونس كل من هبّ ودبّ من دخلاء ومتطفّلين ومتفيهقين ...
ومن المفتين الّذين اخترت لهم بعض الفتاوى الّتي يغلب عليها طابع التيسير والاعتدال والمرونة والتوسّط ومواكبة العصر ومتغيّراته، يمكن أن نذكر:
- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (1394هـ/ 1973م)
- الشيخ محمد العزيز جعيط (1390هـ/ 1970م)
- الشيخ محمد الخضر حسين (1378هـ/ 1958م)
- الشيخ علي النّيفر (- 1985)
- الشيخ محمد الشاذلي النيفر (- 1997)
- الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة
- الشيخ محمد الهادي ابن القاضي (1400هـ/ 1979م)
- الشيخ محمد المختار السلامي
- الشيخ كمال الدّين جعيط
- الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور (1390هـ/ 1970م)
- الشّيخ محمد الصالح النيفر
- الشّيخ مصطفى كمال التارزي (1421هـ/ 2000م)
وينتمي هؤلاء إلى المدرستين المالكيّة والحنفيّة.
ومن أراد أن يتوسّع في الموضوع، عليه مراجعة الكتب التّالية:
- الفتاوى التّونسيّة في القرن 14هـ: د. محمد السويسي (مرقونة بجامعة الزّيتونة)
- فتاوى شيخ الإسلام محمّد العزيز جعيّط : تحقيق محمّد بوزغيبة ط: مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان 1994، ط 2 ، كنوز إشبيليا وابن حزم، 2001.
- فتاوى الشّيخ الإمام محمّد الطّاهر ابن عاشور: جمع وتحقيق محمّد بوزغيبة ط: مركز جمعة الماجد دبي 2004.
- فتاوى الشّيخ محمّد المهيري الصفاقسي: تحقيق مشترك: محمّد بوزغيبة ومن معه : المطبعة العصريّة تونس 2002.
- الإفتاء في تونس بعد الاستقلال : جميلة بن ساسي : مرقونة بجامعة الزيتونة 2006.
- الشّيخ علي النّيفر حياته وآثاره: محمّد المختار النّيفر: ط. تونس 2001.
- مجلّة الهداية الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى.
5. نمــاذج من منهج الوسطيّة لدى فقهائنا المعاصرين:
لقد حدّد الشّيخ محمّد المختار السلاّمي، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة، بين سنتي (1984م-1998م) شروط المفتي في سؤال وجّه إليه وفحواه:
السّؤال : هل من حقّ أيّ مسلم أن يفتي ؟
الجواب: عن هذا السؤال تكفّل به القرآن الكريم : "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذَّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمونَ" (سورة الأنبياء-7) فالفتوى ليست مرتبطة إلاّ بالعلم والمعرفة، ولا شكّ أنّه إضافة إلى العلم لا بدّ من تقوى الله فبتقوى الله يكون اطمئنان المستفتي أكمل.
أمّا سؤال من تولّى الإمامة مع جهله بأحكام الدّين، فإنّ المستفتي لا يكون بريئا كمن مرض ولم يتوجّه إلى طبيب مختصّ وتوجّه إلى رجل طيّب في مظهره ليداوي بدنه.
وأحذّر المؤمنين والمؤمنات من اعتماد أشخاص معروفين بالتّقوى، إذا لم يجمعوا إلى تقواهم المقدار العلمي الّذي يخوّل لهم الإفتاء وبيان حكم الله.
وقد اطّلعت على فتاوى عديدة بعضها يصدر في وسائل الإعلام وبعضها أخبر بها المستفتون، فكانت معظم هذه الفتاوى مخالفة لدين الله، والسّائل مقصّر لأنّه لم يسأل أهل العلم، والمسؤول إثمه كبير لإفتائه في دين الله بغير علم( ).
فالشّيخ السلاّمي وضع ضوابط الإفتاء، وحذّر من مغبّة فتاوى الأمّيين والجاهلين بالدّين ومرضى النّفوس والمتطفّلين على الدّين الإسلامي والإسلام بريء من هؤلاء براءة الذّئب من دم ابن يعقوب عليهما السّلام.
وفي ما يلي عناوين الفتاوى المختارة :
- وصول الثّواب إلى الموتى، قال بذلك جمهور شيوخ الزّيتونة.
- العناية بالمساجد أولى من العناية بأضرحة الأولياء للشّيخ محمّد الهادي ابن القاضي، مفتي الجمهوريّة الثالث (1970م-1976م)، وللإشارة فالشّيخ ابن القاضي حنفيّ المذهب.
- مركّب سياحي مكان مقبرة للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة مفتي الجمهوريّة التّونسيّة الرّابع (1976م-1984م).
- وسطيّة إخراج زكاة الزّيتون : الشّيخ علي النّيفر المفتي المالكي أيّام العهد الحسيني.
- الجمع بين الصّلاتين بسبب العمل : للشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة الثّاني (1962م-1970م).
- حول جمع وتقسيم الزّكاة للشّيخ محمّد الشاذلي النّيفر عضو رابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرّمة.
- التوسّط في تسعير البضاعة للشّيخ محمّد الصالح النّيفر المفتي المالكي أيّام العهد الحسيني.
- أكل ذبائح أهل الكتاب: جمهور شيوخ الزّيتونة في القرن العشرين.
- أكل اللّحوم المستوردة للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة.
- جواز الإحرام من جدّة للشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور، شيخ الإسلام المالكي وشيخ الجامع الأعظم وفروعه في نهاية العهد الحسيني.
- نقل الدّم مباح عند المسلمين ومحرم عند المسيحيين للشّيخ محمّد الهادي ابن القاضي.
- حكم نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع دون إمضاء.
- التسابق على العلم بعوض للشّيخ محمّد الخضر حسين المفتي المالكي بتونس ورئيس جامعة الأزهر في الخمسينات.
- القرض الوطني مباح: الشّيخ محمّد العزيز جعيط، شيخ الإسلام المالكي ومفتي الديار التونسيّة الأوّل في حكومة الاستقلال.
- حرمة إضراب الجوع ومقصد حفظ النّفس للشّيخ محمّد العزيز جعيط، أيضا.
- الاقتراض بفائض بنكيّ عند الضّرورة لسماحة مفتي الجمهوريّة السّابق الشّيخ كمال الدّين جعيط، نجل الشّيخ محمّد العزيز جعيط مفتي الديار التونسيّة الأوّل (1998م-2008م).
- الأجنّة المشوّهة للشّيخ كمال الدّين جعيط، أيضا.
أ- وصول الثّواب إلى الموتى :
قال شيوخ الزّيتونة المعاصرون بوصول قراءة القرآن للميّت وبوصول أجر ثواب الصّدقة إليه.
فالشّيخ الإمام الطّاهر ابن عاشور يقول في إحدى فتاويه: "إنّ قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميّت، وكذلك التصدّق بالطّعام على المحتاجين وكذلك ذكر لا إلاه إلاّ الله ونحوها من الأذكار الموعود بالثّواب عليها، كلّ ذلك يصل ثوابه إلى الميّت على ما اختاره جمهور المالكيّة وأئمّة المذاهب وأهل السنّة( ) . وقال بهذا الرأي أيضا الشّيخ محمّد العزيز جعيط( ) ومحمّد الخضر حسين( ) محمّد الهادي ابن القاضي( ) محمّد الحبيب ابن الخوجة( ) ومحمّد المختار السلاّمي( ). ولم يجوّز بعض الشّيوخ المعاصرين وصول ثواب قراءة القرآن للموتى مثل محمود شلتوت المصري( ) والشّيخ عبد الحميد بن باديس الجزائري( ).
فحرمان الميّت من الثّواب فيه تشدّدا ويغلق باب الأمل والرّجاء أمام الأحياء الّذين يفكّرون في مصير موتاهم من جهة، وأدلّة القائلين بإيصال الثّواب إلى الموتى أقوى من جهة أخرى، ومن راجع نصوص فتاوى شيوخ الزّيتونة سيجد قوّة الدليل ورجاحة الرأي وفصاحة البرهان وحجّتهم النّص النّبوي الشّهير الّذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وولد صالح يدعو له وعلم بثّه في صدور الرّجال".
ب- العناية بالمساجد أولى من العناية بأضرحة الأولياء:
ورد سؤال لمفتي الجمهوريّة التّونسيّة محمّد الهادي ابن القاضي (1400هـ/ 1979م) ونصّه :
"في منطقتنا وليّ صالح يكثر الأهالي من زيارته وتقديم الهدايا إلى ضريحه، وأهمّها الزّرابي الّتي أصبح أكواما، وعزم الأهالي على بناء جامع في منطقتهم، وجمعوا لذلك أموالا غير كافية، فنصحوا ببيع بعض الزّرابي والهدايا، ولكنّهم أبوا ﺎتقاء لغضب الوليّ، وخوفا من أن يسلّط عليهم عقابه بالمرض أو الموت أو غيرهما. فما قول فضيلتكم في هذه التخوّفات ؟"
الجواب : إنّ ما يقدّم من الهدايا إلى أضرحة الصّالحين لا نفع فيه للمهدي، وليس من العمل الصالح المثاب عليه، وهو لا يخرج عن ملك صاحبه، ولذلك فإنّ بيع هذه الزّرابي المهداة لضريح هذا الوليّ الصّالح للاستعانة بثمنها على عمل نافع للمسلمين بتلك الجهة، لإقامة بناء المسجد الّذي يراد إحداثه، أفضل من إبقائها مهملة لا نفع فيها للمسلمين، وإمّا خوفهم من غضب الوليّ وأن يسلّط عليهم عقابه، فهذا من الجهل بالدّين، فليس لأحد من المخلوقات قدرة على تسليط عقاب على أحد، بل ذلك لله وحده( ).
فالشّيخ ابن القاضي فنّد معتقدا وثنيّا راسخا في مخيال الشّعب التّونسي منذ عهود التخلّف، ونصح بضرورة التّعويل على الله وحده فهو المغيث والمعين في السّرّاء والضّرّاء.
ج- مركّب سياحي مكان مقبرة:
ورد سؤال للشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة، مفتي الجمهوريّة التّونسيّة ونصّه :
تنوي المجموعة التّونسيّة الكويتيّة للتنمية، بعد موافقة البلديّة والدّيوان القومي التّونسي للسّياحة، إنجاز مركّب سياحي فوق أرض تقع بمفترق شارع أولاد حفوز والطيب المهيري، مع العلم أنّ جزاءا من هذه الأرض كان فيما مضى مقبرة لأهل الكتاب، وقد وقع نقل جميع رفاتها إلى مكان آخر، فهل يجوز لنا شرعا أن نبني فوق هذه الأرض ؟
الجواب : اعلموا أنّ الأرض الّتي تشيرون إليها في استفتائكم لم تبق مقبرة أصلا وليس لها حرمة المقابر بدليل قولكم : وقد وقع نقل جميع رفاتها إلى مكان آخر، فإذا صحّ ما ذكرتم جاز البناء بها، واستعمالها للصالح العام كما أشار إلى ذلك جمهور الفقهاء ( ).
رغم جوابه الموجز، فإنّ الشّيخ ابن الخوجة وضّح إمكانيّة استغلال الأراضي الّتي كانت مقابر مهما كانت ديانة المدفونين بها إذا نقل رفاتهم، تيسيرا للانتفاع بتلك الأرض، أمّا المقابر الّتي تضمّ أمواتا فلا يجوز استغلالها احتراما لجثثهم لأنّ الإنسان مكرّم حيّا وميّتا.
د- الجمع بين الصّلاتين بسبب العمل:
سؤل الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور(1390هـ/1970م):
هل يمكن لبعض العملة والموظّفين الجمع بين الظّهر والعصر جمع تقديم إذا لم يسمح لهم بأداء صلاة العصر في وقتها ؟
أجاب الشّيخ قائلا : قبل الجواب، نلاحظ أنّ الصّورة المسؤول عنها قد بدت لنا من الغرابة بمكان إذ لا نتصوّر أنّ المسلمين بلغوا هذا الهوان والمذلّة بحيث يمنعون من حرّة أداء عبادتهم، والحال أنّ ذلك حقّ غير محجور على أحد في الدّنيا، وما كان لمسلم ولا غيره أن يمنع إنسانا كائنا ما كان من القيام بواجبه الدّيني في الوقت المحدّد في ديانته لأداء ذلك الواجب.
لذلك نرجو أن ننبّهوا أبناءنا الّذين يسألون عن أداء صلاة العصر قبل وقتها لأنّ وقت صلاة العصر الّذي كتبه الله موسّع، وأنّه لا يقلّ عن ساعة ونصف في أقصر أيّام العام، وأنّه ينبغي لهم أن يسترخصوا في ترك العمل أثناء الوقت الاختياري لمدّة خمس دقائق أو نحوها، لأداء الصّلاة ثمّ العودة إلى العمل، ولا أظنّ أنّ هناك من أصحاب المصانع والمستأجرين من يمانع في هذا الأمر الضّروري البسيط، وإذا وجد من يبلغ به العناد والعدوان مبلغ المنع من ذلك، فإنّه ينبغي لهم أن يسلكوا معه ما يردعه برفع الأمر لمن فوقه أو الاحتجاج عليه، أو سلوك غير ذلك من المسالك المشروعة للعمّال الّتي يسلكونها لحماية حقوقهم، فحقّ الله أولى بأن يحمى.
وإذا فرضنا أنّ جميع الوسائل لم تجد، وأنّ العناد للدّين والاستخفاف بأهله قد بلغ المبلغ الأقصى، وأنّ العامل أو الموظّف الّذي منع من أداء الصّلاة في وقتها لم يستطع أن يحقّق معاشه من غير ذلك العمل، فهنالك يأتي محلّ النّظر في السؤال الّذي عرضتموه، والّذي يظهر أنّ هذه الحالة قد صارت حالة المعذور الّذي منع بالقهر والاضطرار من أداء الصّلاة لوقتها الاختياري، فإنّه يؤخّرها للوقت الضّروري ولا إثم عليه، أو يقضيها فائتة على الأحكام المعروفة عندكم في قضاء الفوائت.
أمّا مسألة جمع التقديم، فإنّ المذاهب الأربعة قد اختلفت فيها بعد الاتفاق على جمع الظهر والعصر بعرفة، وجمع المغرب والعشاء بمزدلفة( ).
فالمذهب الحنفي يمنع مطلقا جمع صلاتين في وقت واحد كيفما كان العذر. وقال في الكنز ( ) عاطفا على الممنوعات : وعن الجمع بين الصلاتين في وقت بعذر.
وأمّا المذاهب الثّلاثة الباقية، وهي المذهب المالكي، والمذهب الشّافعي، والمذهب الحنبلي، فإنّها تجوّز الجمع بين الصّلاتين في وقت واحد لأعذار معيّنة وبشروط مفصّلة، تفاوتت فيها المذاهب الثّلاثة ضيقا واتّساعا. فأضيقها في ذلك المذهب الشّافعي الّذي قصّر جواز الجمع على صورتين فقط، هما حالة السفر وحالة المطر في خصوص الجماعة في المسجد، كما بيّن ذلك الإمام النّووي في لباب المناهج.
ويلي المذهب الشّافعي، المذهب المالكي، فقد حدّد جواز الجمع فيه أيضا بالسّفر والمرض الّذي يخاف صاحبه الإغماء، ليلة المطر لخصوص المساجد، وتردّد ابن القاسم في الجمع بين الصّلاتين للخوف.
وأمّا المذهب الحنبليّ، الّذي هو أوسع الثلاثة في هذه المسألة، فإنّه يجوّز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما تقديما وتأخيرا على السواء في حالات منها: العذر والشغل المبيحان لترك الجمعة، كما هو منصوص عليه في دليل الطالب للشّيخ مرعي بن يوسف وشرحه نيل المآرب.
إذا تقرّر هذا، فإنّ محاولة تخريج الصورة المسؤول عنها على المذهب المالكي قياسا على المسافر كما قال خليل (776هـ/1374م): "ورخص له جمع الظهرين". وهو أمر غير بعيد ولا سيما ومرجع ذلك إلى مظنّة الضرورة والمشقّة كما ورد في كلام ابن القاسم (191هـ/806م) وتوجيه على ما ذكره القاضي أبو الوليد الباجي (474هـ/1081م).
ولكن الأولى من هذا التّخريج عندنا اعتماد منصوص المذهب الحنبلي، إذ لا مانع من الأخذ به لمن أراد أن يقلّده في الصّور المسؤول عنها، على الشّروط المعروفة في تقليد الإنسان لمذهب غير مذهبه الأصلي، وهي الشّروط الرّاجعة إلى تجنّب التلفيق المخلّ.
وإنّ تقليد الإنسان لمذهب من مذاهب الهدى هو غير مذهبه الملتزم، أولى من تخريج في مذهبه قد يكون مستبعدا لعدم ذكر فقهائه للمسألة المخرّجة، مع أنّها ليست بعيدة عن الفرضيّ عندهم، على أنّ فيما بيّناه من جواز التّأخير للوقت الضروري أو القضائي في الصّورة المسؤول عنها، ما يغني عن ذلك، فإذا كان في السائلين من لا تطيب نفسه للتأخير ويرغب في جمع التقديم، فإنّ الإفتاء له في ذلك على المذهب الحنبلي لا مانع منه( ).
فالشّيخ الفاضل يسّر لأصحاب الأعذار الشرعيّة الجمع بين فريضتين اقتداء بالمذهب الحنبلي، كما حذّر من التلفيق بين المذاهب أو الخروج عن المذهب والإفتاء بأحكام غيره لمن له قدم راسخة نحو العلوم الشّرعيّة تؤهّله للاجتهاد خارج مذهبه.
6. وسطيّـة إخـراج زكــاة الزّيتــون:
سؤل الشّيخ علي النّيفر (-1405هـ/1985م) عن رجل تحصّل على غلّة زيتون تبلغ نصابا، وأراد أن يخرج زكاته دراهم بمقدار قيمة ما وجب عليه، فهل يجزئه ذلك في المذهب المالكي أم لا ؟
فأجاب:إنّ مذهب الإمام مالك عدم إجزاء ذلك، فلا بدّ من إخراج الزّكاة من عين ما وجبت فيه، لأنّ الشّارع قصد تشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال، ولذا علّق الزكاة بالأعيان، غير أنّه في صورة الحال، له الخيار بين أن يخرج العشر زيتا أو حبّا( ).
فالشّيخ علي النّيفر جوّز إخراج نصاب الزّيتون من الحبّ أو الزّيت تيسيرا وتقيّدا بأصول مذهبه بناء على الخطّة الّتي شغلها يوم صدور الفتوى وهي مفتي مالكي في الدائرة المالكيّة بالمحكمة الشّرعيّة، ولا يجوز له أن يفتي على مذهب غيره، علما وأنّ المحكمة الشّرعيّة أيّام العهد الحسيني كانت تضمّ دائرتين شرعيّتين : دائرة مالكيّة ودائرة حنفيّة، وكلّ مفت مطالب بتقديم الفتوى على مقتضى مذهبه.
7. حول جمع وتقسيــم الزّكــاة :
بيّن الشّيخ محمّد الشاذلي النّيفر(-1997م) في إحدى دورات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكّة بأنّ المذهب الحنفي يرى شرطيّة التّمليك عند صرف الزّكاة، ومن هنا اقتصر هذا المذهب في مصارف الزكاة على الأفراد لأنّهم هم المتأتّي منهم التّمليك، وأمّا مشاريع التنمية الاجتماعيّة أو الأعمال الخيريّة الاجتماعيّة الّتي ملكيّتها جماعيّة وليست فرديّة، فلا يمكن صرف الزّكاة إليها.
وأوضح الشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر أنّ المذهب المالكي لا يرى شرطيّة التّمليك مثل المذهب الحنفي ولذلك يجوّز قضاء دين الميت، ثمّ تطرّق إلى مسألة التلفيق بين المذاهب وإلى شروطها وهي روح الوسطيّة في الفقه الإسلامي لأنّ الاختلاف المذهب رحمة.
قال الشّيخ الشّاذلي في فصل حكـم التّلفيق في المذهبين الحنفـي والمالـكي، وجـزم ابن نجيـم (970هـ/1562م) في رسالته في بيع الوقف بغبن فاحش، بأنّ المذهب جواز تقليد غير من قلّده.
وجاء في المذهب المالكي تحرير هذه المسألة : في الشّبْرَاخِيتي :
يمنع تتبّع رخص المذاهب وفسّرها بما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النّص وجليّ القياس، وقال غيره إنّ المراد بتتبّع الرخص رفع مشقّة التّكليف بإتباع كلّ سهل، وفيه أيضا امتناع التّلفيق... إلى أن قال : والصحيح جوازه وهو فسحة. وبالجملة في العبادة الواحدة طريقتان :
- المنع وهو طريقة المشارقة،
- والجواز وهو طريقة المغاربة ورجّحت.
اتّضح أنّ من قلّد مذهبا لا يجوز له أن يأخذ من غيره من المذاهب فلا حرج في ذلك.
وبيّن الشّيخ الشّاذلي أنّ الشّريعة الإسلاميّة مبنيّة على التّيسير لا على التّعسير، وليس هذا دعوة إلى
التحلّل ونقض الشّريعة، وإنّما يكون بالميزان الشّريعي، واشتهد بما ذكره صاحب عمــدة التّحقيق البنّانـي (1194هـ/1780م) قوله :
"إنّ ضابط جواز التّلفيق وعدم جوازه هو أنّ كلّ ما أفضى إلى تقويض دعائم الشّريعة والقضاء على سياستها وحكمها فهو محظور".
وأمّا إذا كان التّلفيق يؤيّد دعائم الشّريعة وما ترمي إليها حكمتها وسياستها الكفيلتان بسعادة العباد في الدّارين تسير عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات وهو المطلوب.
ثمّ عاد الشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر إلى مسألة التّمليك عند صرف الزّكاة وقال : "وإذا نظرنا إلى غير المذهب الحنفي في عدم اشتراط التّمليك بالصّورة الّتي اعتمدها الحنفيّة، نرى ذلك ممّا ترمي إليه حكمة الشّريعة لنفع الفقراء والمساكين بصورة أجدى وأنفع، لأنّ الأعمال الخيريّة اجتماعيّة منفعتها مسترسلة وأشمل، فهي من السّياسة الحكيمة الشّرعية.
ولو قايسنا بين تعميم ما يعطى من الزّكاة للفقراء لانطباق الشّرط عليهم، وبين إيجاد مؤسّسات اجتماعيّة وأعمال خيريّة، لاتّضح أنّ منفعة الفقراء والمساكين تكمن في هذه المؤسّسات، لأنّ ما يأخذونه قد يصرفونه في أمور تافهة لا تعود عليهم بالنّفع، بخلاف ما تدرّه عليهم المؤسّسات القائمة على مصالحهم مع ما في ذلك من إيجاد أعمال لهم يتقاضون منها أضعاف ما يأخذونه، ومن تكوين أعمال فلا يبقون عاطلين وهذا ما دعا إليه الشّرع الحكيم( ). فالشّيخ محمّد الشّاذلي النّيفر رحمه الله يقدّم الطّرح المرن معتمدا على المصلحة المرسلة وهي من أبرز أصول المذهب المالكي.
8. التوسّط في تسعير البضاعة:
سئل الشّيخ محمّد الصالح النّيفر عن تألم النّاس وتحرّجهم من كثرة ارتفاع الأسعار خصوصا في المواد الضّروريّة، وتساءلوا عن حكم الله في ذلك ؟
فأجاب : إنّ تسعير أولي الأمر لبعض ما يباع في السّوق بثمن يمنع تجاوزه من المسائل الخلافيّة لدى أئمّة الفقه الإسلامي، ضمنها الإمامان أبو حنيفة وأحمد ذهابا مع ظاهر الحديث الّذي رواه الصحاح عن أنس أنّ قال : "غلا السعر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله، قد غلا السّعر، لو سعّرت لنا ؟ فقال : إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإنّي لأرجو أن ألقى ربّي، وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال."
ولذا قال الإمامان التّسعير حرام، وقال مالك: إنّه يجوز للإمام التّسعير، وفي وجه للشافعيّة جواز التّسعير في حالة الغلاء. وقال ابن العربي المالكي (478هـ/1085م): الحقّ جواز التّسعير وضبط الأمر على قانون ليس فيه مظلمة لأحد الطرفين، وما قاله المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وما فعله حكم، لكن على قوم صحّت نيّتهم وديانتهم، أمّا قوم قصدوا أكل مال النّاس والتّضييق عليهم، فباب الله واسع وحكمه أمضى.
وفي كتب الفقه المالكي الّتي تقول بجواز التّسعير: إنّ للإمام إخراج المتجاوز للسّعر من السوق، وتعزيره، أو بما يبلغ به حدّا شرعيّا.
ويفيد كلاّ منهم أنّ تجاوز السّعر مكروه، والأظهر أنّها كراهة تحريم، وهذا بالنّسبة للبائع فقط ( )
فالشيخ محمد الصالح النّيفر يبيح التّسعير أخذا بالأحوط ومراعاة للتّسعير بين المتبايعيْن.
9. أكل ذبائح أهل الكتاب:
السؤال: ورد سؤال للشيخ محمد عبده (1323 هـ/1905م) في بداية القرن العشرين، مفاده أنّ ذبح أهل الترنسفال مخالفٌ، لأنّهم يضربون البقر بالبَلْطِ، وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية، والغنم يذبحونها من غير تسمية، هل يجوز ذلك ؟
الجواب: أجاب الشيخ محمد عبده بحلّيّة أكل ذبائح أهل الكتاب، وأيّده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في ذلك، وقال إنّ – بقاء ذبائح أهل الكتاب يكون على أربع قواعد:
الأولى: فتوى أبوبكر بن العربي الّتي ذكرها عند شرح قوله تعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيَّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذيِنَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" (سورة المائدة: 5) من كتاب: أحكام القرآن.
الثّانية: إنّ هذه الفتوى بناء ابن العربي على قولي محمد بن عبد الحكم (214 هـ/829م) وعبد الله بن وهب (- 197 هـ) من المالكيّة.
الثّالثة: وقع الاستنباط بالقاعدة الصولية المقررة عند الحنفية الّتي تقتضي أنّ العام الوارد بعد الخاص يكونُ ناسخا له، ومعنى ذلك أنّ عموم طعام أهل الكتاب الوارد بعد ذكر المحرّمات السابقة في الآية: "حُرَّمَتْ عَليْكُمْ المَيَّتةُ والدّمُ" يشبه ورود النسخ بعد النصّ.
الرّابعة: تخريج الآية على أنّ طعام أهل الكتاب معْطوف على قوله تعالى: "اليوْمَ أحِلّ لَكُمْ الطّيَّباتُ". وعطف الجملة على الجملة دليل على أنّ طعام الّذين أوتوا الكتاب حلالٌ متى لم يكن على شروطنا ( ).
ومن شيوخ الزّيتونة الّذين قالوا بحليّة أكل ذبيحة النصارى الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ( ) والشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة ( ).
وخالف الجميع الشيخ محمد الهادي ابن القاضي، وقال بعدم جواز أكل ذكاة الكتابيّين ( ).
فجمهور شيوخ الزّيتونة أخذوا الحلّ الوسط وراعوا ظروف المسلم الّذي يعيشُ مع النصارى أخذا بظاهر النّص دون تشدّدٍ أو تأويلٍ بعيدٍ. وإباحه أكل اللّحوم المستوْردة الّتي قال بها الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة يندرج ضمن هذا الفكر الزّيتوني التّوسّطي.
10. أكل اللّحوم المستوردة:
السؤال: تُقدَّمُ لأبنائنا في المبيتات (لحوم مستوردة)، وقد تسرّب إلينا الشك في حليّة أكلها، باعتبار عدم التّحقق من ذبحها حسب الشّريعة الإسلاميّة، وقد نهى الله تعالى عن أكل الميتة، فقال: "حُرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ". كما نهى عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه في قوله عزّ وجلّ: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ". لذلك رفعنا أمرنا إليكم لتوضيح الموقف وطمأنة النفوس.
الجواب: إنّ الله أحلّ لنا بهيمة الأنعام، وكلّ حيوان مقدور على ذبحه بشرط التذكية، وهي قطع الأوداج كلّها أو بعضها في الحلق حسب اختلاف المذاهب، والأوداج أربعة: الحلقوم والمريء والعرقان اللّذان يحيطان بهما، وكلّ ما أنهر الدمّ وأفرى الأوداج تصحّ به التذكية ما خلا السنّ والظفر، لحديث حذيفة.
ولا تصح الذكاة إلا من مسلم، لأنّ التذكية تحتاج إلى دين ونيّة، وهي بذلك ضرب من ضروب العبادة، ورخّص الشارع في أكل ذبيحة أهل الكتاب بقوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ". ولأنّ أهل الكتاب – وهم اليهود والنّصارى – على دين إلاهي يحرّم الخبائث ويتّقي النجاسة، ولهم في شؤونكم أحكام مضبوطة متّبعة، لا يُظنّ بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلاهي، بخلاف المشركين والمجوس وعبدة الأوثان، فقد ورد النّهي عن أكل ذبائحهم. أمّا أهل الشرك، فلقوله تعالى: "وَمَا اُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ" وقوله عزّ وجلّ: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ".
وأمّا المجوس فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: "سنّوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم." فلم تصح ذبيحة الوثني لأنّه لا يقرّ على دينه وكذلك المرتدّ.
ومن المعلوم أن ما يؤتى به من هذه اللّحوم مذبوحا ممن هو أهل للذبح بطريقة يتحقّق معها إنهار الدّم، جائزا لنا أكله. قال الشربيني في الإقناع: "ولو أخبر فاسق أو كتابيّ أنّه ذبح هذه الشّاة مثلا حلّ أكلها لأنّه من أهل الذّبح.
أمّا شرطك التّسمية، فمتفق عليه – في الجملة – عند سائر المذاهب ما عدا الشّافعي. ويلزم عند التذكير والقدرة لقوله جلّ وعلا: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ".
والأظهر أنّ المقصود بهذه الآية، النّهي عن أكل متروك التّسمية عمدا مع القدرة، لما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمّي حين يذبح، فليسمّ وليذكر اسم الله ثمّ ليأكل".
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّهم قالوا: "يا رسول الله إنّ قوما هم حديثو عهد بشرك، يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروه، قال سمّوا أنتم وكلوا."
وأخرج الدارقطني أيضا: عن أبي هريرة قال: سأل رجل النّبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل منّا يذبح وينسى أن يسمّي الله، قال: اسم الله على فم كل مسلم.
وقد اتفق القائلون باشتراط التّسمية، على أنّ المسلم النّاطق العالم بوجوبها إذا تركها عمدا تحرم ذبيحة. وذهب الّذين لا يشترطون التّسمية في حق الكِتابي، إلى أنّ قوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" جاء مخصّصا لعموم قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ".
وقال المالكيّة: لا تشترط في حق الكتابي التّسمية لأنّه أباح ذبائحهم، وهو يعلم أنّ منهم من يترك التّسمية. قال ابن العربي ( ). إنّ الله حرّم ما لم يسمّ الله عليه من الذبائح، وأذن في طعام أهل الكتاب، وهم يقولون: الله هو المسيح بن مريم وأنّه ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. فإذ لم يذكروا اسم الله سبحانه أكل طعامهم، وإن ذكروا فقد علم ربّك ما ذكروا، وإنّه غير الله، وقد سمح فيه، وإنّما حرّم الشارع ذبحا يُذكر عليه اسم غير الله تصريحا، فأمّا ما يُقصد إليه فيصيب قصده فهو الّذي لا كلام فيه، وأمّا الّذي يسمّيه فيخطئ قصده فذلك الّذي رخّص فيه.
هذا وقد أكل النّبي صلّى الله عليه وسلّم من الشاة المسمومة المشويّة الّتي أهدتها إليه اليهودية، ولم يسألها عن ذبيحتها أهي ذبيحة المسلم أم اليهودي، وذُكر اسم الله عليها أم لم يُذكر، وبهذا أخذ أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس، والزهري والربيعة والشعبي ومكحول.
وممّا تقدّم عرضه يُعلمُ أنّ اللّحوم المستوردة من أوروبا وغيرها من البلاد، إمّا أن تكون صادرة عمّن هو أهل للذبح، من مسلم أو كتابي يهودي أو نصراني، أو لا تكون، فإن كان الّذين يتولّون تصديرها وتسويقها مسلمين، فلا غبار عليه وأكلها حلال، وإن كانوا كتابيّين فكذلك لصريح قوله تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ"، ولا يحرم أكل هذه اللّحوم المستوردة من البلاد الّتي أغلب أهلها مسلمون أو أهل كتاب إلا إذا تأكّد لدينا أنّها ميّتة لم تقع تذكيتها تذكية شرعيّة.
وإن كان أغلب البلد ممن لا تحلّ ذكاته كالمشركين والزّنادقة والمجوس ونحوهم، فإن علم أنّ ذابح الحيوان مسلم أو كتابي ولو بطريق الإخبار، حلّ اللّحم المستورد لتذكيته ممن هو أهل للذبح كما تقدّم، وإن لم يحصل العلم بذلك فلا تحلّ.
ثم اللّحوم المستوردة يحقّ أكلها متى عُلم أنّها لحم بقر أو غنم أو نحوهما ممّا يحلّ شرعا، فإن علم أنّها لحم خنزير أو نحوه ممّا لا يحلّ أو جهل نوعها وكان محتملا لذلك لم تحلّ، لورود النّصوص القطعيّة بحرمتها.
فالشيخ ابن الخوجة يسرّ للجالية المسلمة الّتي تعيش في المهجر أن تأكل اللّحم الّذي يباع هناك ما لم يكن لحم خنزير، كما أباح للمسلمين المقيمين ببلدانهم أكل اللّحوم المستوردة الّتي تأتي من البلاد الغربية الّتي تعتنق الديانة المسيحيّة ( ).
11. إحرام المسافر للحجّ بالطّائرة:
سُئل الشيخ الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور عن مكان إحرام المسافر للحجّ عن طريق الطّائرة.
الجواب: تردّد النّظر بين إلحاق حكم راكب الطّائرة بحكم راكب السّفينة، إذا كان محلّ نزوله بأرض الديار. متجاوزا ميقات الإحرام المعيّن لأهل أفُقه، فروى ابن نافع عن مالك "لا يُحرم الحاج في السّفينة"، وهذا يحتمل وجوب النّزول إلى الميقات وفيه مشقّة ينبغي نفيها عن الدّين، ويحتمل أن يريد أنّه يرخّص له تأخير الإحرام إلى النّزول إلى الأرض، وروى في النّوادر عن محمد بن الموّاز (269 هـ/882م) قال مالك: " من حجّ في البحر منى أهل مصر وشبههم يُحرم إذا حاذى الجحفة، وظاهره أنّ ذلك حكم إحرامه، ولا يجوز له تجاوز سمت المحاذاة غير محرم بالنيّة والتجرّد من مخيط الثّياب.
وفصل سَنَد فقال: إن كان المسافر في البحر محاذيا للبرّ مثل السّفر في بحر القلزم، أحرم إذا حاذي ميقات أُفُقه، لأنّه يمكنه النّزول إلى البرّ ليُحرم من ميقاته – أي بدون مشقّة، لأنّ البرّ غريب، ويجوز تأخير الإحرام للمشقّة لكن عليه هدي، لأنّ التّأخير رخصة، والرّخصة تدفع الإثم في التّجاوز ولا تُسقط وجوب الهدي.
وأمّا من سافر في بحر لا يحاذي الشواطئ مثل بحر الهند وبحر اليمن وبحر عيذاب، فيجوز له تأخير الإحرام ولا هدي عليه، لأنّه إذا جاز له التّأخير، انتفى وجوب الهدي حتى يدلّ دليل على وجوب الهدي مع جواز التّأخير ولا دليل عليه، فلا يُحرم حتى يصل إلى البرّ إلا أن يخرج على البرّ أبعد من ميقات أُفقه.( )
فالشيخ ابن عاشور رخّص للحجيج من مصر وشمال إفريقيا عبر الطّائرة أن يحرموا عند النّزول بمطار جدّة أي بعد الميقات، وذلك لعسر الإحرام بالطّائرة في الجو وذلك لسرعة الطّائرة عندما تمرّ فوق الميقات، ولعنت إحرام ركاب الطّائرة من النّساء والرّجال وهم بداخلها، واشترط الشيخ الإمام لجواز تأخير الإحرام الهديْ، لكن هل يدفع حجيج اليوم الهديْ وهل أرشدهم المعنيّون بالأمر بذلك ؟
12. نقل الدّم مباح عند المسلمين ومحرّم عند المسيحيّين:
سُئل الشيخ محمد الهادي ابن القاضي مفتي الجمهوريّة التّونسيّة في السبعينات عن نقل الدّم الّذي بلغ السائل أنّه محرّم عند المسيحيّين حتى لإسعاف المرضى الّذين استنزفت الأحداث دماءهم، فأراد معرفة حكم الدّين الإسلامي في الموضوع.
أجاب الشيخ ابن القاضي قائلا: "إنّ شريعة الإسلام تنظر إلى النفس البشرية نظرة تكريم، ولذلك جعلتها أعزّ ما في الكون وأشرف ما خلق الله. ودعت المؤمنين إلى التّعاون على حفظ مقوّمات الحياة، ببذل كامل ما في الوسع لإنقاذ الآخرين، ومدّهم بما يحتاجون إليه، وتتوقّف عليه سلامتهم وحياتهم خاصة في حالة المرض المخوف، وجاء في الحكمة القرآنيّة: "وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
وكان الدّم من أبرز ما أظهره الطبّ الحديث لإنقاذ المرضى، في حالات خاصة من أطوار المرض، وبالأخصّ عند إجراء عملية جراحيّة، أو عند الإصابة بنزيف دمويّ، أو جرح خطير يفقد معه الشّخص مقدارا هامّا من مادّة الحياة الضروريّة هذه بحيث تكون حياته مهدّدة إن لم يقع حقنه بكميّة من الدّم البشري، ولذا قرّر الطبّ أنّ هذه العمليّة تكون ضروريّة في هذه الحالات، لإنقاذ هذه النّفس البشريّة من هلاك محقّق.
ففي مثل هذه الحالة ينبغي حقن المريض بهذه المادّة الضروريّة للحياة، ويكون حكمه في الشّريعة الإسلاميّة أنّه إذا توقف شفاء المريض وإنقاذ حياته على نقل الدّم إليه من شخص آخر، بأن لا يوجد ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته، فإنّ نقل هذا الدّم إليه، وكذلك إذا توقفت سلامة العضو، جاز نقل الدّم إليه.
وهذا الحكم كقيّد بما إذا لم يترتّب على هذه العمليّة ضرر بمن ينقل منه الدّم، والمرجع نحو ذلك إلى رأي أهل الاختصاص من الأطباء المباشرين للمريض ( ).
وقضيّة نقل الدّم قد تكلّم عن جوازها الشيخ جعيط منذ الأربعينات من القرن الماضي ( ).
13. حكم نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع:
تقدم سؤال لأسرة الهداية ونصّه: "فقدت في حادث مرور كميّ هامّة من دمي، وتطوّع أقاربي ممّن لهم فصيلة دمي بكميّة من دمائهم، وأمكن بعناية الله وتطوّعهم إنقاذ حياتي، وكانت ابنة عمّي ضمن هؤلاء، وبعد الشّفاء التّام والحمد لله رغبت في الزواج بها، فأثار أحدهم شبهة تتمثّل في أنّ نقل الدّم كالرّضاع تترتّب عليه الحرمة، ورغم أنّي غير مقتنع بذلك، فقد فضّلت أن أستنير برأيكم في الموضوع، فما هو؟
الجواب: إنّ نقل الدّم يختلف عن حكم الرّضاع لعدّة اعتبارات منها:
- إنّ التّحريم بسبب الرّضاع ورد فيه نص صريح بالكتاب والسنّة، فقد قال الله تعالى: "وَأمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مَّن الرَّضَاعَةِ" وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب"، أمّا التّحريم بنقل الدّم، فلم يرد فيه نص بالكتاب ولا السنّة.
- لا يصحّ قياس الدّم على اللّبن لانعدام الشُّبه بينهما في التركيب والوظيفة، فاختلاف التّركيب واضح لا يحتاج إلى بيان، وأمّا اختلاف الوظيفة فالدّم ينقل الغذاء والهواء، واللّبن غذاء خالص يوفّر للجسم النّماء.
- إنّ ثبوت بنوّة الرّضيع للمرضع ناشئ عن المساهمة في تكوين جسمه باللّبن كتكوّنه في الرّحم عند الحمل، وفي رعايته، وأمّا ثبوت قرابة الدّم فلاعْتِبارها كقرابة النّسب، بخلاف نقل الدّم فلا شيء فيه من ذلك، وقد يستفيد الإنسان بدم من يجهله، وهذا ما تقوم به بنوك الدّم في العصر الحاضر ( ).
هذه فتوى تونسيّة أخرى تبيح نقل الدّم وتؤكّد حرص شيوخ الزّيتونة على اعتماد جانب التّيسير والمرونة عند الإجابة عن الفتاوى الّتي تَرِدُ إليهم وفي خصوص المسائل المستجدّة الّتي لم يتناولها الفقهاء القدامى.
14. التّسابق على العلم بعوض:
سُئل الشيخ محمد الخضر حسين: هل يجوز للرجل أن يُعيّن جانبا ليأخذه من فاق غيره في تحقيق مسألة علميّة؟
الجواب: ورد في الشّريعة جواز المسابقة على الخيل بعوض من غير المتسابقين تدريبا على الحروب، وترغيبا في الأخذ بالاستعداد لها عند الحاجة.
وهذه العلّة يصحّ إجراؤها في مسألتنا، بل التّرغيب في العلم والتّنافس فيه أكيد، ولا سيما عند ضعف الهمم في طالبه، وقلّة الاعتناء به من حيث إنّه فضيلة.
وعليه فما يقع الآن من المناظرات لإحراز مراتب التّدريس والامتحانات للفوز بجوائزها سائغ لا بأس به ( ).
تندرج فتوى الشيخ محمد الخضر حسين ضمن فتاوى المسابقات الّتي كثر الجدل فيها هذه الأزمان، وخصوصا عندما تنوّعت وتشعّبت وخصّصت لها برامج خاصّة عبر الهوائيّات، لكن ما أباحه الشيخ الخضر حسين هو التّسابق على الاستزاد في العلم وعلى التّنافس الشريف من أجل إحرازه، أمّا التّسابق في لعب الميسر فهذا لا تبيحه الشريعة الإسلاميّة إطلاقا ( ).
15. التّسابق على العلم بعوض:
دعت الحكومة التّونسيّة بعد الاستقلال سنة 1957 إلى الحصول على قرض وطني لتجهيز البلاد صناعيا ويحقق لها الازدهار الاقتصادي، وجعلت له فائضا سنويّا، وأمام تحرّج التّونسيّين الّذي اعتبروا هذا الفائض ربًا محرّمًا، بيّن الشيخ جعيط في فتوى له أنّ الغرض من القرض الوطنيّ هو تجهيز البلاد تجهيزا صناعيّا الأمر الّذي يُقلصُ ظلّ البؤس، ويُبْعدُ شبح البطالة، ويُمكّن أبناء البلاد من بناء مصانع بأجور تقيهم شرّ الخصاصة.
ثمّ بيّن الشيخ جعيط مقاصد التّجهيز الصناعي وقال: "وبهذا الاعتبار يكون القرض الوطنيّ المحقّق لهذه الأهداف السّامية من القرض في سبيل الله، إذ ليس الجهاد خاصة كما يظنّه الكثير، بل هو ما يرْضاه الله ويحِثّ عليه، ولا ينبغي أن يكون في صدر المؤمنين حرج من الاكتتاب في القرض الوطنيّ، بعلّة أنّه قرضٌ بزيادة، وهو مُجمعٌ على تحريمه لأنّ الزيادة لا يشترطها المقرض، ولا هو مجبور على تسلُّمها، بل هو متمكّنٌ من التّنازل عنها للحكومة، والرّجوعُ عند الاقتضاء بمقدار ما أقرضه، وإذا لم يرجع إلى اليدِ المقرِضة أكثر ممّا أقرضت، بقي القرض سالما لا يُكدّرُ صفوه، وانتفي توهّم المنْعِ، واكتسى حلّة القرض ا
yassine- عدد المساهمات : 1
تاريخ التسجيل : 07/12/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 21, 2011 12:37 am من طرف Admin
» خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين ج 1 بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
السبت مايو 21, 2011 12:32 am من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 3
الجمعة مايو 20, 2011 10:10 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 2
الجمعة مايو 20, 2011 10:00 pm من طرف Admin
» تجديد التفسير القرآني من تعدّد القراءات إلى توحيدها نسقيّا بقلم د: يوسف بن سليمان ج 1
الجمعة مايو 20, 2011 9:17 pm من طرف Admin
» القرآن بين دعوى الحداثيين و القراءة التراثية بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 9:08 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثالث بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:50 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الثاني بقلم الدكتور يوسف بن سليمان
الجمعة مايو 20, 2011 8:21 pm من طرف Admin
» تاريخ القراءات القرآنيّة في عهدها الأول الجزء الأول
الجمعة مايو 20, 2011 7:38 pm من طرف Admin